عفو بطعم المصالحة.. أول الغيث قطرة
للمرة الثانية وفي أقل من شهر، يأتي عفو ملكي عن بعض من المدانين أو المتابعين أو المبحوث عنهم في قضايا أثارت الرأي العام الوطني سابقا، وكانت موضوع نقاش عمومي.
يتعلق الأمر بمناسبة عيد العرش، حيث تم العفو عن عدد من الصحافيين والنشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي والمدافعين عن حقوق الإنسان، فهناك من اعتبر أنه عفوٌ عادٍ وله دلالة إنسانية فقط، في حين اعتبر آخرون أنه عفو استثنائي سيكون له ما بعده، وهو ما سوف يتأكد لاحقا.
بخصوص العفو بمناسبة عيد العرش، قد يكون عاديا إذا شمل فقط الأشخاص المتابعين أو المحكوم عليهم على خلفية تدوينات تهم قضايا سياسية أو إجرامية كالاتجار في المخدرات، أو مناهضة التطبيع مع إسرائيل، ولكن أن يشمل العفو أشخاصًا توبعوا قضائيا بتهم الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، فهي جرائم “محرّم” دوليا التسامح أو الصفح معها، مثلها مثل البيدوفيليا، أو أن يشمل أشخاصًا خارج المغرب، كانوا قد اختاروا المنفى الاختياري أو الهجرة الإكراهية، ولم تعد تعنيهم العودة إلى المغرب نهائيا، خاصة منهم من لجأ إلى تسوية وضعيته الإدارية بخصوص الإقامة على أساس اللجوء السياسي، فنكون أمام عفو استثنائي وله ما بعده.
عفو استثنائي يعكس وجود أعطاب في تدبير مرحلة معينة من تاريخ المغرب، امتدت من سنة 2016 إلى 2024، مع العلم أن بوادرها بدأت سنة 2014.
أما المبادرة الثانية، في إطار العفو الملكي، فتتمثّل في العفو على 4831 شخصا من المدانين أو المتابعين أو المبحوث عنهم في قضايا متعلقة بزراعة القنب الهندي، وهو ما يعني أن نعيش بالفعل عفوًا استثنائيًا بأبعاد استراتيجية.
بالفعل، كانت هناك مطالب بالعفو عن مزارعي الكيف، ولكنها مطالب متفرقة ومناسباتية، وغير مطروحة كأولوية في أجندة الفاعل الحقوقي أو السياسي.
وللاعتراف، فإن الفاعل غير الرسمي الوحيد الذي تعاطى مع هذه الإشكالية بشكل مؤسساتي هو حزب الأصالة والمعاصرة ، وذلك بوضع مقترح قانون العفو العام عنهم سنة 2014، والذي رفضته الحكومة جملة وتفصيلا سنة 2020، بل وإن نفس الحزب جعل من هذه القضية جزءًا من برنامجه الانتخابي والحزبي سنة 2016، إلا أن قرب هذه الحزب من الدولة، جعل المهتمين والمعنيين يرتابون من مبادرته ولا يثقون فيها ولا يبالون بها، وأيضا مواجهاته، وهو الذي كان في المعارضة، مع حزب العدالة والتنمية، الذي كان يقود الحكومة، الأمر الذي دفع أي حقوقي أو مدني يبتعد عن ذلك البوليميك الحزبي…
ومع ذلك، لا ينكر أحدٌ أن العفو على مزارعي الكيف هو عفو مفاجِئٌ للجميع، وغيرُ متوقع.
فإن كانت فلسفة هيئة الإنصاف والمصالحة قائمة على جبر الضرر الجماعي كنوع من المصالحة، فإن هذا العفو يعكس نوعا من “المصالحة المجالية”، مصالحة منطقة عانت التهميش من جهة، ومن جهة أخرى عانت ظلم القانون والواقع، بالمقارنة مع باقي جغرافية المغرب، منطقة تحتاج إلى أن تستثمر خيراتها وثرواتها، التي تنعم بها، بشكل قانوني ومشروع، مثلها مثل المناطق، التي تنتج، مثلا، الفوسفاط أو الفراولة أو الحوامض أو الطماطم أو الأسماك… كثروات وطنية.
إن هذا العفو يعكس، أيضا، مصالحة الاقتصاد الوطني مع اقتصاد محلي، وما قد ينعم به هذا الأخير على الأول من عائدات تساهم في التنمية الوطنية، ويقطع مع “اقتصاد الثقوب”، الذي يستفيد منه كبار تجار المخدرات ومن يحيط بهم ويحميهم.
ختاما، إن أول الغيث قطرة، فمن معالجة أعطاب مست حقوق وحريات أفرادٍ، مرورا إلى تحديات تمس ليس فقط مزارعي الكيف، بل الوطن ككل، اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، وصولا اليوم إلى أننا بالفعل أمام عمليات عفو استراتيجية، تؤسس لمرحلة مقبلة، لا نعلم، بعد، كل أسبابها ولا معالمها ولا أبعادها…