أوجلان للبوليساريو: إفلاس الانفصال

في 27 فبراير 2025، وجّه زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، رسالة إلى حزبه وأنصاره، دعا فيها إلى التخلي عن المشروع الانفصالي، من خلال حل الحزب ورمي السلاح، والتحول نحو العمل السياسي على قاعدة تحالف كردي تركي جديد للمائة العام المقبلة في تاريخ الجمهورية التركية.
حملت رسالة أوجلان عنوان “دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي”، تحدث فيها عن “العلاقات التركية – الكردية التي تمتد لأكثر من ألف عام”، حيث تحالف الأكراد والأتراك دائمًا من أجل البقاء، ولمواجهة القوى المهيمنة.
وقال إن “الحداثة الرأسمالية استهدفت خلال القرنين الماضيين تفتيت هذا التحالف”، مؤكدا على أن الواجب الرئيس اليوم هو “إعادة صياغة هذه العلاقة التاريخية الهشة بروح الأخوة”، ما يجعل “المجتمع الديمقراطي حاجة لا فكاك عنها”، على حد تعبيره.
ربطت الرسالة بين الحاجة إلى حزب العمال الكردستاني التي تأسس سنة 1978، ليحمل السلاح في مواجهة تركبا بدءا من 1984، بسياسة الإقصاء وإنكار الهوية الكردية في سياسات الجمهورية التركية، مؤكدا أن التغيير القائم في تركيا اليوم يجعل مبررات ذلك التأسيس متجاوزة. وقد دعا بناء على ذلك، إلى الانخراط في البناء الديمقراطي لتركيا الجديدة، في إطار ما أسماه “التكامل مع الدولة والمجتمع”.
كان أوجلان قد عبّر أكثر من مرة عن دعوة مماثلة، في 2009 و2015، إلا أن دعوته لم يُستجب لها. ما يبرر طرح السؤال حول الجديد هذه المرة، وهل يتخلى حزب العمال الكردستاني فعلا عن مشروعه الانفصالي ومن تم عن سلاحه؟ وما تأثير ذلك على المشاريع الانفصالية المماثلة مثل مشروع جبهة البوليساريو؟
أبعاد دعوة أوجلان لتفكيك مشروعه الانفصالي
لفهم أبعاد الدعوة التي تضمنها رسالة أوجلان إلى المكون الكردي في تركيا، وجب العودة إلى الوراء لفهم كيف تشكلت فكرة الانفصال نفسها لدى الأكراد، وهو مكون عرقي ولغوي موزع على أربع دول كبرى في المنطقة، تركيا والعراق وسوريا وإيران، ومجموعات صغيرة في أرمينيا وغيرها.
لكن يمكن القول إن الوعي بالمشكلة الكردية تشكلت في تركيا أساسا، بالنظر إلى أنها كانت سبّاقة إلى تأسيس دولة قومية حديثة. حيث تتفق جل التحليلات أن سياسات الدولة التركية هي التي أدت إلى تبلور الوعي بالهوية الكردية، التي نشأت في سياق ردّ فعل على سياسات إنكار الهوية المتعددة لتركيا الحديثة. ما دفع المفكرين والمثقفين الأكراد إلى إعادة التنظير للهوية كردية، باعتبارها نقيضا للهوية التركية.
بالعودة إلى التاريخ، كان مفترضا أن تتشكل تركيا الحديثة على أساس هوية متجانسة وتوافقية بين الكرد والترك، على اعتبار أنهما العرقيتان الأكبر في تركيا، حيث يشكل الكرد كتلة بشرية تناهز 20 مليون شخص، تتمركز في الشرق التركي، ولها لغتها الخاصة وتقاليدها ومدنها التاريخية مثل ديار بكر. لكنها هوية تتشارك مع الأتراك مصالح متشابهة، إذ عاشوا معا تحت الحكم العثماني لقرون، وواجهوا معا قوميات منافسة مثل القومية اليونانية والقومية الأرمينية.
وخلال حرب الاستقلال واجه الأكراد والترك معا الاستعماريين الأوربيين، لكن خلال مرحلة التأسيس لتركيا بعد 1924، جرى التأسيس لهوية تركية على أساس علماني قومي، يقصي الهوية الكردية تماما، بل جرى تبني سياسات إنكار للهوية الكردية، ما أدى إلى ردود فعل عديدة طيلة تاريخ تركيا الحديث، ومنذ وقت مبكر كذلك، بدءا بثورة الشيخ سعيد البيراني في فبراير 1925، والتي كانت حدثا فاصلا ومرجعيا، مكنت المثقفين الكرد من بناء سردية قائمة على العداء بين الهويتين، كان لها الأثر على علاقات الطرفين لعقود.
اتبعت تركيا منذ كمال أتاتورك سياسات متشددة اتجاه الكرد بهدف دمجهم في الدولة، قامت على إنكار اللغة الكردية والتقاليد والعادات واللباس، وسجن كل من يتحدث اللغة الكردية، وإغلاق المدارس والمساجد. وجرى لاحقا، تهجير الكرد نحو الغرب التركي، في محاولة لتتريك كل مكونات المجتمع وخلطها مع بعضها البعض. سياسات استمرت حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حين انتخب توركوت أوزال رئيسا للوزراء عام 1983، بعد انقلاب عسكري دموي. إذ منحت حكومة أوزال حقوقا للأكراد تعترف بهم كهوية متميزة عن الترك، خصوصا الحقوق اللغوية.
في مقابل سياسات التتريك، لجأ الكرد إلى التشدد أيضا في مواجهة سياسات الحكومات التركية، بما في ذلك خوض العمل المسلح للدفاع عن حقوقهم، ولمقاومة عمليات التهجير وتتريك كردستان. وقد عبرت عدة ثورات كردية عن هذا الرفض الكردي.
وتعد ثورة سعيد البيراني أول ثورة كردية في مواجهة سياسات أتاتورك، لكن الرفض تطور لاحقا إلى مشروع سياسي انفصالي، خصوصا مع ثورة إحسان نوري لسنة 1930، التي رفعت مطلب دولة مستقلة خاصة بالأكراد في تركيا وغيرها، أكدت عليه ثورة ثالثة لسنة 1943، أي خلال الحرب العالمية الثانية.
كان متوقعا أن يؤدي الانفتاح السياسي الذي عرفته تركيا خلال حكم الرئيس سعيد مندريس (1958-1961) إلى تليين المواقف الكردية. إلا أن سياسات مندريس (شُنق إثر انقلاب عسكري) ستدفع بالكرد إلى تحسين مواقعهم في المجتمع الكردي، من خلال تأسيس الجمعيات والأحزاب، والسماح ببروز نخب ماركسية جديدة، منها عبد الله أوجلان، ستحمل لواء تأسيس حزب ثوري مسلح خلال السبعينيات تمثل في حزب العمال الكردستاني. ويعتبر أوجلان من أبرز منظري ومؤسسي هذا الحزب، وتكمن قوته في اعتناقه للعمل الثوري المسلح.
تبنى حزب العمال الكردستاني المطالب المتعلقة بالهوية، وحدد هدفه في تأسيس دولة مستقلة. كما تبنى الحزب مع تنظيمات أخرى العمل السري. لكن منذ 1978، أعلن عن نفسه، من تأسيس تنظيمات وصحف تدافع عن الحقوق الكردية، كما أنشأ في الوقت نفسه فصائل مسلحة سرية لمقاومة السلطات التركية في المناطق الكردية.
وخلال سنوات قصيرة، استطاع الحزب أّن يسيطر على الحركة الكردية في تركيا، بحيث استطاع خلال سنوات قليلة استقطاب الآلاف من المقاتلين والمناضلين إلى صفوفه، وصار الممثل البارز للهوية الكردية.
وقد ظل الحزب يسيطر على الحركة السياسية للأكراد طيلة عقدين بعد تأسيسه، على الرغم من الضربات القوية التي تلقاها من السلطات التركية، بما في ذلك اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في 1999. وقد ترتب على اعتقال أوجلان أن حدث تغير في أفكاره، من حيث استعداده للتخلي عن فكرة الكفاح المسلح، والتخلي عن الفكرة القومية لصالح تبنيه الفكرة الوطنية، أي التخلي عن مطلب استقلال الأكراد لصالح فكرة تركيا الديمقراطية لكل مكوناتها، وهي الدعوة التي عبر عنها منذ 2009 لكنها لقيت معارضة من طرف بعض متشددي حزبه.
يمكن القول إن عاملين اثنين أسهما في تغيير قناعات أوجلان: الأول، سياسات حزب العدالة والتنمية، بعد وصوله إلى السلطة سنة 2002، إذ وسعت حكومات الحزب من الحقوق اللغوية والثقافية للأكراد، وقامت بتعزيز القوى والتنظيمات البديلة عن حزب العمال الكردستاني، قصد سحب البساط من هذا الأخير، لكن حكومات أدوغان ظلت تمزح في الوقت نفسه بين القوة والسياسة في مواجهة العمل المسلح للأكراد. ورغم محاولاته سنة 2009 و2015 التوصل إلى تسوية نهائية بين الطرفين، إلا أنها فشلت.
العامل الثاني، هو الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، والذي مهد الطريق أمام أكراد العراق للاندماج، من خلال القبول بالحكم الذاتي في إطار الدولة الفيدرالية العراقية، وقد دفع ذلك حزب العمال الكردستاني التركي إلى تغيير أهدافه، من دولة مستقلة لكل الأكراد إلى المطالبة الحكم الذاتي في تركبا، ومن تم فقد أنشأ فروعا له، خصوصا في سوريا.
لكن الحزب الأم في تركيا ظل يحمل سلاحه، ولم يتنازل عنه، وبعد 2003 اتخذ من شمال العراق ملاذا آمنا له، وقاعدة لشنّ هجماته على تركيا في الداخل، لكن تمركزه في العراق سيشكل فرصة لتركيا للتدخل العسكري في شمال العراق، ثم تطور كل ذلك ليصبح لها وجود عسكري في مدينتي الموصل وكركوك.
ومن نتائج تمركز الحزب المسلح في جبال قنديل في كردستان العراق، تشكيل تحالف توازن بين أنقرة وحكومة أربيل، بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني)، حليف تركيا، ما أسهم نسبيا في استقرار الحدود المشتركة بين تركيا والعراق.
لكن في 2017، حاول أكراد العراق الانفصال عن العراق لتأسيس دولة، من خلال الدعوة إلى تنظيم استفتاء في الإقليم، إلا أن تركيا اعتبرت الخطوة مرفوضة، وضغطت إلى أن تم التخلي عنها. ليتبين حينها أن الهدف من وراء تعميق تركيا علاقاتها الاقتصادية والسياسية بحكومة كردستان العراق في أربيل، هو “أن يكون وجودها قويا إلى الحد الذي تكون معه قادرة على منع أي محاولة للاستقلال والانفصال”.
وتؤكد المعطيات السابقة أن تركيا تمسك جيدا بالورقة الكردية، لكن التطورات المفاجئة في سوريا منذ 2011، أربكت كل حساباتها، لأن الثورة السورية شكلت فرصة للأكراد في شمال سوريا، خصوصا حزب الاتحاد الديمقراطي، لتشكيل قوات مسلحة ممثلة في “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) سنة 2015، ونسج تحالف مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل تحت ذريعة الحرب على الإرهاب (داعش والقاعدة)، ثم تطورت علاقاته لاحقا مع نظام بشار الأسد في مواجهة بعض فصائل الثورة السورية، لكن أساسا في مواجهة عدهم المشترك: تركيا.
لكن هذه الدينامية التي بدأت منذ 2015، يبدو أنها دخلت مأزقا جديدا، نتيجة التطورات الجديدة في سوريا، إثر خلع نظام بشار الأسد وسيطرة القوى المسلحة الحليفة لتركيا على السلطة في دمشق. وإلحاح تركيا، بكل الوسائل، على دمج قوات “قسد” في الجيش السوري الموحد، ورفض صيغة الحكم الذاتي كما تمارسه “قسد” في شمال سوريا بحكم الأمر الواقع.
وإذا كانت التطورات في سوريا منذ 2011 قد أسهمت في إفشال محاولات المصالحة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني مرتين على الأقل في السابق، فإن التطورات الجديدة في المنطقة قد تكون عامل نجاح لدعوة أوجلان الجديدة، كما تؤكد ذلك سرعة الاستجابة التي عبّر عنها الحزب.
ومن أهم تلك التطورات: خلع نظام الأسد وتولي القوى الحليفة لتركيا السلطة في سوريا، وفشل محاولة الانفصال لسنة 2017 في كردستان العراق، والتطورات الجيوسياسية الكبرى جراء عملية طوفان الأقصى في غزة، وفشل إيران وروسيا في سوريا، وعودة ترامب إلى السلطة في أمريكا.
تطورات تجعل تركيا، ربما لأول مرة في تاريخها الحديث، في مواجهة مفتوحة مع القوى الإقليمية المنافسة لها، وخصوصا إيران وإسرائيل، في حين قد تشكل سوريا والعراق الساحة الرئيسية لتلك المواجهة في المرحلة القادمة.
في ضوء كل ذلك، تبدو رسالة أوجلان بمثابة مناورة كبرى متعددة الأهداف: فهي إعلان دعم لتركيا في مواجهة التطورات الجيوسياسية الجديدة، غرضها طي صفحة الماضي وإعادة بناء تركيا قوية بالترك والكرد معا، وحتى بدون حكم ذاتي للكرد. وهي خطوة كذلك لسحب الكرد من ساحة معركة بين قوى إقليمية، أكبر منهم ويمكن أن تطحنهم إن ظلوا في الوسط. فالرسالة تعبير عن انحياز كردي لتركيا في المرحلة المقبلة، لكن ليس على بياض. ولا يعني ذلك أن تداعيات الخطوة التي أقدم عليها أوجلان تقتصر على الشأن الكردي فقط، بل تتعداه إلى المنطقة، إذ يرتقب أن تكون لها تداعيات على كل المشاريع الانفصالية، ومنها مشروع جبهة البوليساريو.
تداعيات حل “بي كاكا” على البوليساريو
من المرجح أن ترتد دعوة أوجلان لتفكيك المشروع الانفصالي الكردي في تركيا على المشاريع المماثلة في المنطقة، ومنها مشروع جبهة البوليساريو. والعكس صحيح. كلما حقق أي مشروع انفصالي تقدما في المنطقة، يرتد إيجابا على البوليساريو. إذ أن تخلي حزب العمال الكردستاني عن مشروعه الانفصالي، معناه فقدان جبهة البوليساريو لحليف موضوعي، إن لم يكن حليفا حقيقا، إذ تفيد بعض المعطيات الإعلامية وجود تنسيق وتعاون بين الطرفين، تعكسه زيارات ميدانية، وربما تدريبات مشتركة لتقاسم الخبرة والسلاح.
وفق هذا المنطق، طالما روّجت جبهة البوليساريو للمشاريع الانفصالية التي نجحت في تحقيق هدفها، وتحفل المواقع الإلكترونية للجبهة مثلا بنموذج “تيمور الشرقية” أو نموذج “جنوب السودان”، على اعتبار أنها نماذج يمكن تكرارها في حالة البوليساريو. علما أن الاختلاف جوهري بين تلك المشاريع، حيث إن مقومات نجاح مشروع انفصال “تيمور الشرقية”، مثلا، لا تتوفر جبهة البوليساريو على أي مقوم منه، سوى الشعارات.
وعلى سبيل المثال، ظلت تيمور الشرقية أرضا محتلة من لدن البرتغال منذ القرن الخامس عشر، عمدت خلالها إلى تغيير البنية المجتمعية لتصير مسيحية بنسبة تفوق 90 في المائة، مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية. والعرقية المهيمنة في تيمور الشرقية تختلف عن العرقيات المهيمنة في إندونيسيا. والمعطى أن انفصال تيمور الشرقية لم تكن تعترض عليه إندونيسيا من حيث المبدأ. لقد تضافرت المقومات المذكورة، الدين والعرق والموقف السياسي لإندونيسيا، فأفضت إلى استقلال تيمور الشرقية في بداية الألفية.
بالمقابل، لا تتوفر جبهة البوليساريو على أي مقوم مجتمعي عميق يجعل منها تعبيرا عن كيان مختلف عن المغرب وشعوب المنطقة، مثل المقوم العرقي أو الديني أو اللغوي، التي تشكل الأرضية الأساس لأي هوية متميزة عن هوية الأغلبية في المجتمع.
كل ما لدى البوليساريو هو إديولوجية باتت متجاوزة وبائدة (الاشتراكية الواقعية)، وتحالف مع قوى معادية ومنافسة للمغرب، اندحر أغلبها وتراجع نفوذ الآخر (القذافي، الأسد، إيران، حزب الله)، ما جعلها بدون حلفاء حقيقيين تقريبا سوى الجزائر، بل تكاد تكون قد انتهت إلى ورقة سياسية في يد هذه الأخيرة، ما يجعل منها حركة انفصالية هشة، ذات أفق غامض.
ومن شأن تخلي حزب العمال الكردستاني أن يعزز أكثر من الهشاشة الفكرية والسياسية لمشروع جبهة البوليساريو، ومن غموض مستقبلها السياسي. صحيح أن المسار السياسي لكل الطرفين مختلف، لكن الأفق السياسي شبه مسدود، وهو ما اقتنع به عبد الله أوجلان دون مواربة، بينما ترفض البوليساريو الإقرار به حتى الآن، خصوصا مع تراجع عدد الدول التي تعترف بجمهورية الجبهة، وارتفاع عدد الدول التي تعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، أو ترجح مبادرة الحكم الذاتي كأساس للحل. وهي تطورات تنزع الشرعية أكثر عن المشروع الانفصالي، وتحول البوليساريو إلى ورقة جيوسياسية في صراع إقليمي بين المغرب والجزائر حول النفوذ والمصالح.
لذا يمكن القول، انطلاقا من تجربة حزب العمال الكردستاتي، إن ما يحول دون تخلي البوليساريو عن مشروعها الانفصالي أمران: الأول، أنها تحولت إلى ورقة جيوسياسية في يد الجزائر، تستعملها لمناكفة المغرب في المحافل الإفريقية والدولية، والهدف منع المغرب من التحول إلى قوة إقليمية في المنطقة، ولعل هذه الورقة قيد الاحتراق في السنوات الأخيرة، إذ بدأت ترتد بالسلب على المصالح الجزائر، وليس العكس.
العامل الثاني غياب قيادة كاريزمية في جبهة البوليساريو، تحظى بالإجماع والثقة كما هو الحال بالنسبة لعبد الله أوجلان ومكانته لدى حزب العمال الكردستاني. فأوجلان رجل فكر وسياسة، وفي الوقت نفسه رجل ميدان وسلاح، ما جعله يتمتع بكاريزما لا مثيل لها وسط الكرد، وقد عززت سنوات السجن لأزيد من 25 سنة في تركيا من شرعيته القيادية والأخلاقية، بينما لا تتوفر جبهة البوليساريو على أي قيادي أو زعيم نظير عبد الله أوجلان.
خلاصة القول أنه يصعب مقارنة حركة انفصالية بمقومات منطقية تبرر دعوى الانفصال مثل حزب العمال الكردستاني، الذي قاتل من أجل هوية كردية واضحة لا تقل الجدل أو الإنكار، اعتمادا على تاريخ ثوري طويل للكرد في تركيا والمنطقة، وعلى إديولوجية اشتراكية واقعية وثورية، وعلى قيادة تتمتع بالكاريزما والمصداقية؛ وبين جبهة انفصالية مثل البوليساريو، لا تملك أيا من مقومات الانفصال في الوسط الصحراوي (اللغة، الدين، العرق..)، اللهم إديولوجية ثورية باتت متجاوزة وبائدة، وقيادة مفككة تفتقر إلى الكاريزما والمصداقية الأخلاقية، ما جعل الجبهة تتحول مع الوقت من كيان يطالب باستقلال الصحراء عن المستعمر الإسباني إلى ورقة جيوسياسية في يد خصوم المغرب في الإقليم (ليبيا، سوريا، الجزائر). وهو التحول الذي أفقدها الشرعية الأخلاقية والواقعية، ويجعلها، مع مضي الوقت، إلى عبئا على الجزائر وعلى القضية التي تزعم النضال من أجلها.
وعليه، لا شك أن البوليساريو تلقت ضربة معنوية وسياسية جراء دعوة عبد الله أوجلان لحزبه التخلي عن السلاح وعن المشروع الانفصالي، والاندماج في المجتمع والدولة التركية. وهي الضربة التي قد تعزز من هشاشة المشروع الانفصالي لجبهة البوليساريو، ويعمق أزمتها الأخلاقية والسياسية. إلا أنه يصعب، حتى الآن، توقع أي تحول من داخل جبهة البوليساريو نظير ما حصل في حزب العمال الكردستاني، اللهم إلا إذا اضطرت الجزائر للقبول بمثل ذلك التحول، تحت ضغط داخلي أو خارجي، أو هما معا.