story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
التعليم والجامعة |

جامعة القرويين.. صرح علمي شيدته امرأة ودرس به ابن خلدون

ص ص

تحلّ اليوم الذكرى الأولى بعد 12 قرنًا على بناء أقدم مؤسسة للتعليم العالي في العالم. جامعة القرويين، التي تُعد من أبرز المآثر التاريخية في مدينة فاس، العاصمة العلمية والروحية للمملكة المغربية.

بتاريخ السبت، فاتح رمضان 245 هـ (859 م)، أي قبل 1200 عام، شرعت السيدة فاطمة الفهرية في وضع الأساس الأول لبناء جامع القرويين، الذي أصبح لاحقًا مركزًا علميًا وروحيًا بارزًا في العصر الذهبي للعالم الإسلامي.

اللبنة الأولى

في القرن الثالث الهجري (9م)، انتقلت فاطمة الفهرية مع والدها الفقيه القيرواني محمد بن عبد الله الفهري وأختها مريم، من مدينة القيروان في تونس (إفريقية آنذاك) إلى مدينة فاس، التي كانت آنذاك عاصمة المغرب في عهد مؤسسها السلطان إدريس الثاني.

تلقت فاطمة وأختها تربية دينية على يد والدهما، الذي ورثتا عنه الورع والتقوى، قبل أن يُضاف إلى إرثهما المعنوي إرث مادي بوفاته في فاس، ما جعلهما تحوزان ثروة كبيرة. لكن ذلك لم يمنعهما من العيش زاهدتين في الدنيا، إذ كانتا توزعان المال بسخاء على المحتاجين وطلبة العلم، ولأجل ذلك لُقبت فاطمة الفهرية بأم البنين.

تعهدت فاطمة بإنفاق ثروتها لبناء مسجد كبير، مكان مسجد آخر كان ضيقًا ولا يتسع للمصلين، فتطوعت لإعادة بناء المسجد الموجود، وضاعفت مساحته بشراء بستان كان يحيط به، وضمته إليه ليحمل منذ ذلك الحين اسم جامع القرويين، في حين عمدت شقيقتها مريم إلى بناء مسجد ثانٍ سمّته جامع الأندلسيين.

وعندما باشرت فاطمة بناء الجامع، التزمت، وفقًا لمؤرخين، بعدم أخذ التراب أو أي مادة تُستعمل في بنائه إلا من الأرض التي اشترتها من مالها الخاص، إذ حفرت كهوفًا في أعماقها، وشرعت في استخراج الرمل الأصفر الجيد، والجص، والحجر لتبني به، كي لا تدخل أي شبهة في تشييد الجامع.

يقول المؤرخ عبد الهادي التازي “حفر أساس مسجد القرويين، والبدء في بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وإن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه، وظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء، وصلّت في المسجد شكرًا لله”.

وقد استغرق البناء نحو 18 عامًا، واكتمل في سنة 263 هـ (876م)، قبل وفاة فاطمة بسنوات قليلة، بين عامي 878 و880م.

صرح علمي

ومع مرور الوقت، تطورت حلقات العلم في جامع القرويين لتشمل مختلف العلوم الدينية والدنيوية، وذاع صيته خارج حدود الدولة الإدريسية، مما جعله مركزًا علميًا وثقافيًا ينافس المراكز ذائعة الصيت آنذاك في قرطبة وبغداد.

ويرى مؤرخون أن الجامع أصبح جامعة بداية من عام 877م، باعتبار أن دروس العلم كانت تُعقد بانتظام في حرمه منذ تأسيسه، فيما يشير آخرون إلى أنه تحول إلى مؤسسة جامعية متكاملة في القرن الخامس الهجري (الـ11م) في عهد المرابطين، قبل أن يزداد إشعاعه في القرن الثامن الهجري (الـ14م) في عهد المرينيين، حين بُنيَت مدارس حول الجامع، وتم تعزيزه بالخزانات والكراسي العلمية في شتى أصناف العلوم، مثل الفقه، والأدب، والرياضيات، والفلك، والطب، وغيرها.

وعلى مر الأزمنة، ارتبطت جامعة القرويين بأسماء شخصيات بارزة في مختلف التخصصات، من بينهم مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، وابن رشد، وابن ميمون، والجغرافي الشريف الإدريسي، وعالم الفلك ابن البناء المراكشي، والرحالة الحسن الوزان (ليون الإفريقي)، كما درس فيها بابا الفاتيكان سيلفيستر الثاني، الذي كان له دور في نقل الأرقام العربية إلى أوروبا.

وفي العصر الحديث، خرّجت الجامعة رموزًا في تاريخ المغرب، مثل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وعلال الفاسي، وغيرهما من قادة المقاومة ضد الاستعمار.

الأثر العلمي

منذ تأسيسها، ظلت القرويين جامعًا للعبادة والزهد، ومركزًا لتلقين العلوم الدينية والأدبية والكونية التي كانت سائدة في تلك العصور، بما فيها دراسة القرآن الكريم، وسنة رسول الله ﷺ، وعلم القراءات، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والتصوف، إضافة إلى علوم اللغة، والبيان، والتاريخ، فضلاً عن الرياضيات، والطب، والفلك.

وإضافة إلى كونها أول مؤسسة اخترعت الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية، تُعد القرويين أول جامعة تمنح إجازة في الطب، والتي كانت من نصيب الطبيب المغربي صالح بن عبد الله الكتامي سنة 603 هـ (1207م) في عهد السلطان الموحدي أبي عبد الله الناصر. وتشهد الإجازة الأقدم في التاريخ للكتامي بمعرفته وبراعته في الطب، والبيطرة، والصيدلة، وتؤذن له بمزاولتها.

كما شهدت الجامعة المغربية في فاس ولادة الأرقام العربية، التي يُنسب اختراعها خطأً إلى علماء الغرب، في حين أنها انتقلت إلى أوروبا من جامعة القرويين عن طريق البابا سيلفستر الثاني، الذي درس فيها وأُعجِب بأرقامها، قبل أن يأخذها معه إلى روما ليعرضها على الأوروبيين كبديل عن الأرقام اللاتينية القديمة.

جامعة القرويين اليوم

وُلِدت جامعة القرويين مع ولادة الدولة المغربية في عهد الأدارسة، وعايشت مختلف الأزمنة منذ ذلك الحين، برخائها وعجافها، وجميع السلالات المسلمة الحاكمة، مرورًا بـالمرابطين، والموحدين، والمرينيين، والوطاسيين، والسعديين، دون أن تتوقف عن أداء رسالتها العلمية النبيلة، وصولاً إلى الأسرة العلوية.

وفي فترة الاحتلال الفرنسي، شهدت القرويين تدهوراً كمركز ديني تعليمي مقارنة بذروتها وأوج نشاطها في العصور الوسطى، إلى أن تحولت بمرسوم ملكي إلى جامعة نظامية في عام 1963، تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، التي أنشأت أربع كليات تابعة للجامعة داخل فاس وخارجها.

وفي عام 1975، احتفظت جامعة القرويين بمقررات الدراسات الإسلامية والعقائدية، فيما جرى تحويل الدراسات العامة إلى جامعة سيدي محمد بن عبد الله التي تأسست حديثًا آنذاك.

وفي عام 2015، صدر ظهير شريف يقضي بإعادة تنظيم جامعة القرويين، إذ صارت تحت الوصاية المباشرة للملك، وإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدلاً من وزارة التعليم، محتفظة بمهام التأطير الديني، والبحث العلمي، وتكوين الأئمة والمرشدين.

وتُعتبر جامعة القرويين، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، ومؤسسة غينيس للأرقام القياسية، أقدم جامعة في العالم، إذ يستمر التعليم فيها منذ 12 قرنًا إلى اليوم، دون انقطاع.

حافظت الجامعة في عمارتها على بصمات جميع العصور التي مرت بها، ابتداءً من الأدارسة وصولاً إلى الدولة العلوية، حيث تعكس هندستها الطراز الإسلامي المغربي والأندلسي، بزخارفه الرائعة على الخشب، والجبص، والزليج.

أما اسم القرويين، فيعود، وفقًا للمؤرخ المغربي علي الجزنائي، إلى عهد السلطان إدريس الثاني، الذي أنشأ عُدوة القرويين في فاس عام 193 هـ (809م) لاستقبال المهاجرين من مدينة القيروان، ومن بينهم فاطمة الفهرية.

وعن هذه السيدة الفاضلة، يقول ابن خلدون، أحد الأعلام الذين مروا برحاب هذا الصرح العلمي:

كأنما نبّهت عزائم الملوك بعدها، وهذا فضل الله يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين، فسبحانه وتعالى إذا أراد لأمة الرقي والرفعة وأذن لها بالسعادة الغامرة أيقظ من بين أفرادها رجالاً ونساء، شباباً وشيوخاً، أيقظ فيهم وجداناً شريفاً، وشعوراً عالياً يدفعهم للقيام بصالح الأعمال وأشرفها وما كان من أجل الدنيا والآخرة.