story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حرب المدونة لن تقع ولن تكون هناك مليونية

ص ص

لم يكن لخرجة عبد الإله بنكيران التي أطلق فيها نيران خطابته على نبيل وادريس وأمينة والآخرين من مفعول، سوى إثارة بعض الغبار عن مشهد سياسي وحزبي راكد، قبل أن يعود إلى سباته العابر للفصول (المشهد الحزبي أعني)، فلم تعد الحياة الحزبية تثير الاهتمام إلا بفضل فضيحة “تقرير المجلس الأعلى للحسابات” أو ملاسنات كتلك التي نقلها بنكيران من صالون بيته إلى مؤتمرات حزبه الإقليمية والجهوية.

هدد عبد الإله بإمكان اللجوء إلى مليونية، إذا تم المس بالمعلوم من الدين بالضرورة في المدونة المرتقبة، أو إذا تمادى القوم من “الحداثيين” في استهداف “الشريعة”، وهو يعلم أن لا مليونية ستقام بدعوة منه، ولا بدعوة من خصومه، كما يعلم كذلك أن النص النهائي الذي سيعرض على الملك لن يتضمن ما من شأنه أن يكون مخالفا للقطعيات الدينية.
ما الجدوى من هذه الخرجات؟ للإجابة عن هذا السؤال، يلزم الجواب عن سؤال آخر: بما يمكن ملء فراغات الخطابات، وقد تم تسييج الأسقف؟

بالمقارنة مع لحظة الانتقال من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة قبل عشرين سنة، ثمة الكثير من الانزياحات، ولكن نحو التماهي والتشابه الذي يقتل السياسة، ويصيب السلط المضادة المفترضة بالشلل.

قبل عشرين سنة، كانت حرب المدونة قائمة على تقاطب سياسي وإيديولوجي، يترجم تقاطبا مجتمعيا وثقافيا، يومها قيل إن التناقضات الهوياتية والثقافية تحرك المجتمع أقوى من التناقضات الطبقية.

قضايا من مثل مدونة الأسرة بين أحكام الشريعة والمواثيق الكونية لحقوق الإنسان، أو ترسيم الأمازيغية والحرف الملائم لكتابتها، أو المهرجانات الغنائية والسينمائية في علاقتها ب”العري” وليس في علاقتها بتبذير المال العام، وغيرها، كانت كافية لإشعال نقاشات “ساخنة”.

كان مقال عن لقطة في فيلم سينمائي، تتحول إلى موضوع خطب في بعض المساجد، ثم ردود على الخطب والمقال في جرائد أخرى، وينتهي الأمر بوقفات أمام القاعات التي تعرض الفيلم، وببيانات مضادة تحذر من التكفير والترهيب الفكري.

اليوم، لم تعد مثل هذه المعارك “الهوياتية” تثير كثيرا من النقاش أو “الضجيج” أو الاهتمام، باستثناء ما يفتعل في وسائط التواصل الاجتماعي من حديث عن “التمغربيت” وإعادة اكتشاف الأصل “المغربي/ الموري”، مما لا صدى له خارج هذه الفضاءات الافتراضية.

خلال هذه العشرين سنة، اختفى شعار “المشروع الحداثي الديموقراطي” الذي أطر بدايات ما سمي حينها عهدا جديدا، استرجعت الدولة طابعها المحافظ بهدوء وتدرج، ولفظت في محطات كثيرة من استقطبتهم من “حداثيي اليسار المتعب”، أولئك الذين برروا انعطافهم نحو اليمين “المخزني” بضرورات التحالف معه باعتباره تناقضا ثانويا، مقارنة بالتناقض الرئيس المتمثل في القوى “الظلامية”.

وجدت الدولة نفسها مجبرة على التخفيف من استحقاقات رفعها لشعار “المشروع الحداثي الديموقراطي” في أفق دفنه، لأنها اكتشفت أن تكلفته تقتضي التحول الديموقراطي من جهة، والتخلص من بعض التقييدات التي تضعها صفة “أمير المؤمنين” أمام “ثورة” تحديثية في القوانين، يمكن أن تستغلها تيارات الإسلام السياسي، لمنافسة “إمارة المؤمنين” حول “احتكار” القول والفتوى الدينيين، فيما يهم تدبير المعاش والعلاقات.

تصادف كل هذا، مع الوصول المفاجئ لإسلاميي العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة، بفضل سياق احتجاجات، لم يكن لهم فيها سهم، سوى أنهم كانوا “لمكر التاريخ” التنظيم المناسب لقطف الثمار، وكما تصالحت “اشتراكية” الاتحاديين مع اقتصاد السوق في نسخته المغربية الريعية، تصالح إخوان بنكيران مع المهرجانات الفنية، وصادقت حكومتهم على اتفاقية سيدياو (اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) التي كانوا يعتبرونها “الشر المطلق”، والأداة الغربية لتخريب المجتمعات، بل وصادقت “حكوماتهم” حتى على بعض من بروتوكولاتها الاختيارية، وصاغت القانون الإطار للتربية والتكوين الذي يقر التناوب اللغوي بديلا للتعريب الشامل، وهو ما كانت قبل ذلك مستعدة لتجييش “كتائبها” الواقعية والافتراضية ضده، وكانت ثالثة الأثافي توقيع العثماني للاتفاقية التي أقرت استئناف التطبيع مع “إسرائيل” رسميا، وهو الذي كتب سنة 1997 مقال ” التطبيع إبادة حضارية”.

نجح المخزن في تقليم أظافر الإسلاميين.

هكذا، وفي الوقت الذي كانت الدولة تستعيد نسقها المحافظ، كان إسلاميو العدالة والتنمية يقدمون تنازلات من رصيدهم “المحافظ”، لتكون النتيجة العودة إلى روح الدولة التي شيدها الحسن الثاني: المحافظة “لايت”، التي تتعايش مع النيران الصديقة، والحداثة “بدون مواد حافظة”، التي تشبه مسدسا بدون طلقات.

في المحصلة، سيمر “ورش” المدونة، دون ضجيج آلات الحفر، ولا احتجاجات العمال، ولن يضيف المهندسون طوابق إلى التصميم الأصلي.

لن يكون لمذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أي ترجمة في نص المدونة، إلا فيما سيقبله توافق المجلس العلمي الأعلى والمجلس الأعلى للسلطة القضائية (الممثلان لوظائف الإمامة الكبرى في نسق الآداب السلطانية)، والسؤال المطروح: هل سيستمر المجلس في رفع توصياته بخصوص ملاءمة القوانين الوطنية مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان بعد أن تصادق رئيسته بصفتها عضوا في اللجنة على تعديلات المدونة التي لن تنضبط حتما لكل مقتضيات المرجعيات الحقوقية الكونية؟

والغالب أن أبرز التعديلات ستهم تجريم زواج القاصرات (أو على الأقل التقييد بما يفيد المنع)، وإلغاء التعصيب في الإرث، وترسيم إثبات النسب عبر الخبرة الجينية، وإمكان حصول المطلقة بدورها على الولاية على الأبناء (بشروط أو بدونها)، مما يمكن أن تقبله الاتجاهات المحافظة، وإن بدت أنها تبدي رفضا لبعضها الآن، وسيكون قبول بعد رفض كما كان الحال مع مدونة الأحوال الشخصية.

لهذا، فإن حرب المدونة لن تقع، ولن تكون هناك مليونية، وسيبقى خطباء لمساجد هادئين في انتظار مصادقة الملك على مخرجات اللجنة للإشادة بها وشرعنتها “شعبيا”، هؤلاء الخطباء الذين مر العديد منهم من محاضن الحركات الإسلامية سريعا أو لمدة طويلة، لكنهم اقتنعوا بأنه كما أن الأحزاب هي أحزاب جلالة الملك، فإن الخطباء هم خطباء أمير المؤمنين، لا يهم إن كانت الخلاصة التي وصلوا لها اقتناعا بعد مراجعات، أو خوفا، أو مصلحة، ما دامت النتيجة واحدة، ولكل امرئ ما نوى.

لن تقع حرب المدونة، ولن يتجاوز “الفرقاء” سقف الملاسنات.