story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الآثار الجيوستراتيجية للضربة العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل

ص ص

تناسلت التحليلات منذ أن قررت إيران يوم 14 أبريل تنفيذ هجوم على إسرائيل داخل الأراضي الإسرائيلية. ولعل القاسم المشترك لهذه التحليلات هو أن هذا الهجوم الإيراني لا يعدو أن يكون “مسرحية” متفق عليها مسبقاً وأن إيران ليست جادة في الدخول في مواجهة شاملة ضد إسرائيل. لمناقشة مدى صحة هذه التحليلات وما إذا كانت العملية العسكرية التي قامت بها إيران لم تحقق أي هدف استراتيجي أو تكتيكي، ينبغي وضع هذا الرد الإيراني في سياقه التاريخي والجيوستراتيجي والجواب عن بضعة أسئلة من أهمها: هل من مصلحة إيران في هذه اللحظة التاريخية الدخول في حرب مباشرة ضد إسرائيل؟ أو القيام فقط بهجوم تكتيكي يهدف إلى ردع إسرائيل وتوجيه رسالة واضحة لها مفادها أنها لن تتوان في تصعيد حدة عملياتها العسكرية في حال قامت إسرائيل بأي هجوم إضافي ضد الأراضي الإيرانية؟ السؤال الاخر الذي ينبغي الجواب عنه هو هل من مصلحة أمريكا في هذه الظرفية أن تتوسع رقعة النزاع مع إمكانية أن تصبح حربا إقليمية واسعة النطاق أم لا؟

للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي أولا الاخذ في عين الاعتبار أنه طالما أن إيران لم تحصل على السلاح النووي فلن تدخل في أية حرب شاملة ضد إسرائيل، ليس لأنها لن تقدر على إلحاق الهزيمة بهذه الأخيرة، بل لأنها تعمل علم اليقين أنه في حال دخلت في حرب شاملة ضد إسرائيل، فهناك إمكانية أن تلجأ تل أبيب إلى استعمال السلاح النووي في حال لم تقدر على هزم إيران عن طريق الأسلحة التقليدية. وهو سيناريو وارد جداً على ضوء فشل ما كان يسمى في السابق “الجيش الذي لا يقهر” في هزم حركة حماس في رقعة جغرافية جد صغيرة. وبالتالي، فمن وجهة النظر الاستراتيجية الإيرانية، فإن أفضل طريقة للتعامل مع الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا هو تنفيذ هجوم محدود ضد أهداف محدودة مع التأكيد على ضرورة التزام إيران بعدم الرغبة في التصعيد العسكري مع إسرائيل.

لا رغبة لواشنطن ولا قدرة لها على الدخول في مواجهة عسكرية ضد إيران

خلافاً لما قد يظنه الكثيرون، فإن أمريكا غير قادرة على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. كما أن أي تصعيد عسكري إيراني لا يخدم المصالح الامريكية، سيما وأن أمريكا- المنهمكة في حرب ضد روسيا في أوكرانيا، والتي تركز في استراتيجيتها على كبح جماع الصين في جنوب شرق آسيا- ليست لها أية مصلحة أو نية في اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط بشكل قد يدفعها إلى تعزيز قدراتها العسكرية في الشرق الأوسط عل حساب الهدفين الاستراتيجيين الرئيسيين وهما كبح جماح روسيا عن طريق إطالة أمد الحرب في أوكرانيا وكبح جماح الصين في جنوب شرق اسيا. وهذا ما يفسر تأكيدها منذ الضربة العسكرية الإيرانية أنها لن تنخرط بشكل مباشر في حرب مباشرة ضد إيران في حال قررت الحكومة الإسرائيلية التصعيد ضد هذه الأخيرة.

هناك إجماع في صفوف الخبراء الاستراتيجيين على أنه لا مصلحة للولايات المتحدة في نشوب أي حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط وأن من مصلحتها الحرص على تدبير التوترات الدائمة وضمان عدم خروجها عن السيطرة وتركيز جهودها العسكرية والدبلوماسية على التنافس المحتدم بينها وبين الصين في جنوب شرق اسيا، والذي تعتبر مسألة تايوان إحدى أهم تجلياته. وقد بدأت بوادر هذه السياسة خلال الولاية الثانية للرئيس السابق باراك أوباما. فما يسمى بالتحول القطبي للولايات المتحدة على المستويين الدبلوماسي والعسكري تجاه آسيا (The American military and diplomatic “pivot”) كان مبنياً على تقييم استراتيجي مفاده أن الصين استغلت انهماك الولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان على مدى عقدين من الزمن، مما أتاح للصين حيزا من الزمن لربح الوقت لتعزيز قدراتها العسكرية وتسريع وثيرة نموها الاقتصادي بشكل أهلها للتـأشير عن أنيابها والتعبير عن عزمها مزاحمة الولايات المتحدة في منطقة المحيط التي، وعلى مدى ستة عقود، كانت تعتبر محمية تابعة للنفوذ الأمريكي.

ولم تعد الصين في السنوات القليلة الماضية تتردد في التعبير عن امتعاضها من الدعم الذي تقدمها الولايات المتحدة لحكومة تايوان، التي تعتبرها الصين جزءً لا يتجزأ من أراضيها. كما عبرت أكثر من مرة خلال السنتين الماضيتين عن نواياها في استعمال القوة، إذا دعت الضرورة، لاسترجاع سيادتها على تايوان. ففي الوقت التي تعتبر مسألة تايوان الميزان التي تقيس بها الولايات المتحدة مدى قوة نفوذها على منطقة جنوب شرق اسيا والورقة التي تستعملها لكبح جماع الصين والحد من طموحاتها الجيوستراتيجية في المنقطة، فهناك تخوف لدى النخبة السياسية والعسكرية الامريكية أن مسألة الاجتياح العسكري الصيني لتايوان أصبحت مسألة وقت. ولعل ما عزز هذه المخاوف هو تقييم بعض كبار المسؤولين العسكرية الأمريكيين، مثل الأميرال فيليب ديفيدسون، القائد السابق للقوات الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، الذي أكد في شهر مارس 2021 أمام أعضاء الكونغرس أن موازين القوى العسكرية في المنطقة أصبحت تميل لصالح الصين، الشيء الذي قد يدفع هذه الأخيرة إلى أخد المبادرة من أجل تغيير الوقع القادم دون تمكن الولايات المتحدة من الوقت الكافي للرد بشكل مناسب لردع القوات الصينية. ولعل هذا التقييم هو الذي دفع الإدارة الامريكية الحالية إلى الرفع من مستوى حضورها العسكري في الفليبين وتعزيز درجة تأهب قواعدها العسكرية الأخرى المتواجدة في كل من اليابان وأستراليا وغوام للتصدي لأي هجوم محتمل على تايوان. وإن إحدى أهم العوامل التي ساهمت في خلخلة موازين القوى وفي تغيير الوضع القائم في المنطقة هو انهماك الجيش الأمريكي في حرب العراق وأفغانستان. ومن ثم، فليس هناك أية رغبة لدى المسؤولين الأمريكيين في الدخول في أي حرب أخرى في المنطقة. ولعل الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من أفغانستان في شهر غشت 2021 وخروجها الصاغر من ذلك البلد كان إيذانا ببدء مرحلة جديدة في الحسابات الاستراتيجية الامريكية مبنية على مبدأ عدم الدخول بشكل مباشر في أي حرب إقليمية في الشرق الأوسط.

تحول مزاج الرأي العام الأمريكي ضد إسرائيل

ومن جهة أخرى، فإن الإدارة الامريكية على وعي أن السياق الحالي الذي جاء فيه تبادل الضربات بين إسرائيل وإيران لا يوفر الأرضية المناسبة التي من شأنها أن تمكنها من حشد الدعم الشعبي في حال قررت الدخول إلى جانب إسرائيل في مواجهة عسكرية مع إيران. من جهة، فإن الشارع الأمريكي- الذي رأى كيف أن نخبته العسكرية والسياسية قد أنفقت ألاف المليارات من الدولارات على هذين الحربين- لم يعد على استعداد لقبول دخول بلاده في حرب أخرى في الشرق الأوسط من شأنها أن تسقطها في مستنقع أسوء من أفغانستان وأن تكون تكلفتها باهظة على المستوى الاقتصادي والبشري وكذلك الاستراتيجي. ومن جهة أخرى، والأكثر أهمية، وهي التحول غير المسبوق الذي وقع في صفوف الرأي العام الأمريكي، بحيث أن الغالبية العظمى من الأمريكيين أصبحت تعبر عن غضبها من حرب الإبادة الجماعية التي تقودها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. فحسب  استطلال للرأي أجرته مؤسسة غالوب  في شهر مارس الماضي، فإن 55 في المائة يعبرون عن رفضهم للجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين. ويعتبر هذا المعطى تحولاً جوهريا في نظرة الشارع الأمريكي للحرب المدمرة التي تقودها إسرائيل ضد المدنيين في قطاع غزة مقارنة مع ما كان الوضع عليه في شهر نوفمبر الماضي حينما عبر 50 في المائة من الأمريكيين عن دعمهم لإسرائيل، بينما عبر 45 في المائة عن رفضهم للحرب. كما أن 52 في المائة من الأمريكيين يرفضون الدعم العسكري الذي تقدمه الإدارة الامريكية لإسرائيل. وفي نفس السياق، أظهر استطلاع رأي أنجزته جامعة كينيبياك، فإن 52 في المائة من الأمريكيين يرفضون استمرار تقديم الإدارة الامريكية للدعم العسكري لإسرائيل. وحسب استطلاع رأي آخر قامت به مؤسسة Pew Research هذا الشهر فإن شعبية وقبول إسرائيل تدنت على وجه الخصوص في صفوف الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة. وحسب نفس المصدر، فإن ثلث الأمريكيين من هذه الفئة يعبرون عن تضامنهم المطلق مع الفلسطينيين، بينما 14 في المائة فقط يعبرون عن تضامنهم مع إسرائيل. كما أن 60 في المائة من الأمريكيين من نفس الفئة العمرية ينظرون بشكل إيجابي للفلسطينيين، بينما 46 في المائة فقط ينظرون بشكل إيجابي لإسرائيل.

على ضوء على المعطيات، وفي السيناريو غير المحتمل الذي تقرر فيه الإدارة الامريكية الدخول إلى جانب إسرائيل في حرب مباشرة ضد إيران، فستلقى معارضة شديدة من الشارع الأمريكي وقد تشهد مختلف المدن الامريكية مظاهرات غير مسبوقة. أخذاً بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة الامريكية تعيش سنة انتخابية وأن الرئيس جوب بايدن يسعى للفوز بولاية ثانية ولتحسين معدلات شعبيته- التي ضلت متدنية طوال فترة حكمه- فمن المستبعد جداً أن يقدم هذا الأخير على إدخال بلاده في متاهات حرب مدمرة أخرى لا يدري كيف ومتى قد يخرج منها. 

كل هذه الاعتبارات مجتمعة دفعت الإدارة الامريكية خلال الأيام التي سبقت العملية العسكرية الإيرانية إلى التواصل مع القيادة الإيرانية عن طريق عدد من دول المنطقة (المملكة العربية السعودية وقطر والامارات العربية المتحدة والعراق) لإقناعها بضبط النفس وعدم اتخاذ أية خطوة من شأنها أن تؤدي إلى اندلاع حربة شاملة في المنطقة. وإن ذلك عل شيء، فإنما يدل على أن الإدارة الامريكية كانت مقتنعة بأن الرد الإيراني على الاستفزاز الإسرائيلي كان حتمياً، ومن ثم عملت على تفادي توسيع رقعة الصراع من خلال إقناع إيران بالعدول عن التصعيد. وبالتالي، فينبغي قراءة الرد الإيراني وتواصل الإرادة الإيرانية مع الإدارة الامريكية على ضوء هذه الخطوة التي أقدمت عليها الإدارة الامريكية قبيل العملية العسكرية الإيرانية.

بالإضافة إلى كل هذه الاعتبارات، فإن إيران حرصت على ألا تتعدى العملية العسكرية ما هو مسموح به في نطاق القانون الدولي، سيما المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تضمن للدول الأعضاء الدفاع عن النفس في حال تعرضها لهجوم مسلح على يد قوة مسلحة. ولعل ما يميز الهجوم الذي نفذته إسرائيل ضد القنصلية الإيرانية في سوريا عن باقي الهجمات الأخرى التي نفذتها في السابق ضد شخصيات إيرانية أو مصالح إيرانية في الخارج هو أن القنصلية أو باقي التمثيليات الدبلوماسية الأخرى تعتبر رمزاً لسيادة الدول وجزءً من أراضيها. وبالتالي، لم يكن بوسع إيران أن تظل مكتوفة الايدي أمام هذا الهجوم الإيراني على إحدى رموز سيادتها. وإن الهدف الذي سعت إيران لتحقيقه حينما توجهت لمجلس الامن وأكدت أن عمليتها العسكرية كانت محدودة في الزمان والمكان هو عدم تقديم أي ذريعة للدول الغربية لاتهامها بخرق القانون الدولي، ومن ثم استعمال مجلس الامن لاستصدار قرار يدين تلك العملية العسكرية. وحتى في حال حاولت الدول الغربية الثلاثة تحقيق ذلك، فإنها ستواجه الفيتو الروسي والصيني، سيما وأن الدول الغربية الثلاثة كانت قد اعترضت على إصدار مجلس الامن لبيان رئاسي يدين الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا.  

ضربة عسكرية تكتيكية حققت أهداف استراتيجية لا يمكن الاستهانة به

إن ما دفع البعض إلى التقليل من قيمة وأهمية الضربة العسكرية الإيرانية هو أنها كانت محدودة ولم تستهدف أية أهداف استراتيجية إسرائيلية ولم تخلف أية خسائر بشرية أو مادية، بل استهدفت المنصات العسكرية التي استعملتها إسرائيل من أجل تنفيذ هجماتها ضد القنصلية الإيرانية في سوريا. فلا يمكن بأي من الاشكال قياس مدى نجاح إيران في ضربتها من عدمه من خلال الخسائر المادية أو البشرية الناجمة عن هذا الهجوم. والحالة هذه أن إيران لم تسع من خلالها ضربتها إلى استهداف المنشآت مدنية أو تجمعات سكنية، بل كان هدفها العسكري هو توجيه رسالة مفادها أنها قادرة على ضرب إسرائيل في العمق والوصول لمنشاتها العسكرية في حال تمادت إسرائيل في استفزازها أو أقدمت على أي هجوم على الأراضي الإيرانية. ولو كان حجم الخسائر البشرية أو المادية هو المقياس الذي ينبغي الاعتماد عليه لمعرفة ما إذا كان بلد ما قد حقق الاهداف العسكرية والاستراتيجية التي يتوخاها من عملياته العسكرية، لكان بالإمكان القول أن إسرائيل، من خلال قتلها لما يزيد عن 34 ألف مدني وإصابة أكثر من 80 ألف قد حققت نصراً عسكرياً بيناً، بينما في الواقع فهي لم تحقق أي من الأهداف العسكرية التي سطرتها في بداية الحرب (استرجاع الاسرى والقضاء على حركة حماس)، بل تعيش على وقع هزيمة استراتيجية ونفسية غير مسبوقة كشفت نقاط ضعفها والوهن الذي يعاني منه جيشها المدجج بالأسلحة الاكثر فتكا في العالم.

 فلو كانت لدى إيران النية في الدخول في حرب شاملة أو أوسع ضد إسرائيل لما اقتصر هجومها على بعض المصالح العسكرية ولما كان محدوداً في الزمان والمكان. ففي هذا السيناريو، كانت ستقوم بتوجيه ضربات عسكرية واسعة النطاق ضد كل المنشآت العسكرية والاقتصادي والمدنية الإسرائيلية. إلا أن ذلك لم يكن هو الهدف الرئيسي لإيران، التي حرصت على أن تكون ضربتها العسكرية تكتيكية. ومع ذلك، يمكن القول أن إيران من خلال هذه الضربة حققت أهدفاً استراتيجيةً لا يمكن الاستهانة بها. فمن خلال هذه الضربة العسكرية وجهت طهران رسالة واضحة لتل أبيب مفادها أن الصبر الإيراني قد نفذ وأن قواعد الاشتباك قد تغيرت، وبالتالي، فإن أي هجوم إسرائيلي على إيران سيواجه بهجوم على الأراضي الإسرائيلية. كما مكنت هذه الضربة إيران من إرساء أسس جديدة لمعادلة الردع المتبادل القائمة بينها وبينها إيران مبنية على أساس قدرة إيران ضرب العمق الإسرائيلي متى شاءت. ويعتبر هذا التحول في قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل انتكاسة جديدة لهذه الأخيرة، خاصةً وأنه يأتي في خضم حرب الإبادة الجماعية التي تقترفها الحكومة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني وفشلها الذريع في القضاء على حركة حماس.

وإذا كان الهجوم الذي نفذته حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي وما تلاه من عجز إسرائيلي على تحقيق أي انتصار عسكري قد أنهى أسطورة الجيش التي لا يقهر التي تبجحت بها إسرائيل منذ نشأتها، فإن الهجوم الإيراني على إسرائيل أثبت مرةً أخرى أنه، لولا الدعم العسكري واللوجستي الذي تحصل عليه إسرائيل من طرف الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، لما كان بقدرتها مواصلة الحرب ضد جيش غير نظامي عان على مدى 16 عاماً من حصار على جميع الأصعدة، فأحرى أن تدخل في حرب شاملة ضد دولة كبيرة تمتلك جيش نظامي كبير وأسلحة أكثر تطوراً وفتكاً من تلك التي تمتلكها حركة حماس. وقد ظهر ذلك الدعم الغربي لإسرائيل وعجز هذه الأخيرة عن الدفاع عن نفسها لوحدها من خلال قيام كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا باعتراض أكثر من نصف الصواريخ البالستية والمسيرات الإيرانية قبل أن تصل إلى الأجواء الإسرائيلية.

فإذا قمنا بتحليل الأمور من وجهة نظر جيوستراتيجية بحتة يمكننا أن نقول أن هذه العملية العسكرية الإيرانية، على الرغم من قصر مداها، تعتبر انتصاراً لإيران. في السابق، تعودت إسرائيل على أخذ زمام المبادرة في الحروب التي قادتها ضد الدول العربية وكانت لها اليد العليا في تلك الحروب من خلال القيام بضربات خاطفة مكنتها من تحقيق انتصارات عسكرية كاسحة مكنتها من توسيع سيطرتها على كل الأراضي الفلسطينية وأراضي عربية أخرى. ولنا في حرب يونيو 1967 خير دليل على الانتصارات الخاطفة والكاسحة التي حققتها إسرائيل على الدول العربية. إلا أن المعادلة تغيرت منذ السابع من أكتوبر ووصولاً إلى 14 أبريل، ذلك أن إسرائيل لم تعد هي المبادرة لتحديد مكان وزمن عملياتها العسكرية، بل فقدت المبادرة وأصبحت أراضيها نفسها مسرحاً لهذه الحروب. من وجهة النظر الاستراتيجية، أو على الأقل من وجهة نظر إيران يعتبر ذلك نقلة نوعية وتحولاً جوهريا لا يخدم مصالح إسرائيل، التي انكشف للعالم كيف أنها نمر من ورق وأنها كانت ولا زالت تستمد قوتها العسكرية من الدعم العسكري السخي من الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية التابعة لها. كما أن الهجمة الإيرانية تشكل انتكاسة كبيرة لإسرائيل ولحليفها الأكبر، الذي لطالما سعى على مدى العقود الخمسة الماضية على تعزيز التفوق العسكري الإسرائيلي على جيرانه في المنطقة وجعل إسرائيل هي القوة العسكرية الأولى التي تفرض تحدد قوانين اللعبة في المنطقة بشكل يضمن لها دائما تفوقها العسكري وكذلك المعنوي.

الأهم من ذلك أن إيران نجحت في تحقيق هدف استراتيجي ثاني، ألا وهو إجبار إسرائيل والدول الداعمة لها على الكشف عن تكنولوجيا منظومات الدفاع التي تستعملها إسرائيل وحلفائها الغربيين وأماكن تواجدها. وحينما نعلم أن العقيدة العسكرية الإيرانية مبنية على تبني حرب الاستنزاف- على عكس إسرائيل التي تفضل الضربات الخاطفة الكاسحة- فإننا سنستنتج أنه، ومن خلال استعمال أسلحة معروفة لدى خصومها- وليس أحدث وأفتك الأسلحة التي تمتلكها- استطاعت إيران إجبار إسرائيل على الكشف عن أهم أوراقها الدفاعية ألا وهي الذراع الحديدي (The Iron Dome) وغيره من المنظومات الدفاعية التي تعتمد عليها لحماية أراضيها. الأكثر من ذلك أنه وعلى الرغم من علم إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وفرنسا علمت بشكل مسبق بنية إيران في توجيه عسكرية لإسرائيل، فإن الصواريخ البالستية التي استعملتها إيران ضد القواعد العسكرية الإسرائيلية قد أصابت أهدافها.

وفي ظل تضارب المعلومات بخصوص الخسائر التي قد تكون تلك الصواريخ ألحقتها بالمنشآت العسكرية الإسرائيلية، فقد أثبت الهجوم الإيراني محدودية أنظمة الدفاع الإسرائيلي في حماية أراضيها من الهجمات الإيرانية. كما من شأن الضربة العسكرية الايرانية أن تترك أثاراً نفسية كبيرة على الرأي العام الإسرائيلي، الذي رأى بأم عينه أن الحقبة التي كانت خلالها إسرائيل في مأمن عن أي هجوم خارجي قد ولت.

لم يعد أمام واشنطن خيارات كبيرة لردع إيران

كما أثبت الهجوم الإيراني والحزم الذي أبانت عنه إيران فشل سياسة العقوبات الاقتصادية التي اعتمدتها الولايات المتحدة على مدى أربعة عقود، خاصةً منذ عام 2019 حينما قررت الإدارة السابقة التنصل من الاتفاق النووي لعام 2015 وتبنت سياسية ما يسمى “أقصى درجات الضغط” لإضعاف إيران وإنهاكها اقتصادياً وإجبارها على الانصياع لإملاءاتها والعدول عن محاولاتها لتغيير الوضع القائم في المنطقة. فبعدما استنفدت الإدارة الأمريكية كل أدوات لي ذراع إيران وجربت كل وسائل الضغط الاقتصادية والدبلوماسية، لم تعد تتوفر على خيارات كثيرة أو فعالة لمعاقبتها على الضربة العسكرية التي نفذتها ضد إسرائيل. ويبقي الخيار الوحيد المتاح أمام الإدارة الامريكية هو توسيع العقوبات على الشركات والبنوك الصينية التي تسهل عملية شراء النفط الإيراني. إلا أن هذا الخيار، حسب العديد من الخبراء، قد يخلق للإدارة الامريكية مشكلتين كبيرتين لا يمكنها في الوقت الراهن تدبيرهما أو التغلب عليهما. أولا: في حال قررت أمريكا فرض عقوبات على تلك الشركات والبنوك الصينية، فإنها ستدخل في مسار تصادمي مع الصين، التي لن تتوان في التعبير عن رفضها لهذه الخطوة. ثانيا: سيتسبب قررا فرض عقوبات على الشركات الصينية التي تستورد النفط الإيراني في إزالة ما يزيد عن 1،5 مليون برميل من النفط من الأسواق العالمية كل يوم. ومن شأن هكذا خطوة أن تؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار النفط، وبالتالي، إلى ارتفاع الأسعار ومستويات التضخم في الولايات المتحدة وفي باقي بلدان العالم. وهو سيناريو لا يمكن للرئيس بايدن أن يتحمله، سيما وأنه على بعد سبعة أشهر من الانتخابات الرئاسية ويعي بشكل جيد أن أي تدهور للقدرة الشرائية للمواطن الأمريكي قد يتسبب له في خسارة رهان الفوز بولاية رئاسية ثانية.

وأخيراً وليس اخراً، يعتبر هذا التحول في قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل انتكاسة جيوستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة الامريكية، ذلك أنها تضرب بعرض الحائط إحدى أسس الحلف العسكري والأمني الذي أقامته مع بلدان الخليج، في مقدمتهم المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة. وبني هذا التحالف على أساس تقديم أمريكا للحماية العسكرية والأمنية لهذه البلدان مقابل دخولها في المعسكر الأمريكي والحرص على التعاون معها من أجل الحفاظ على المنظومة الإقليمية التي بنتها الولايات المتحدة في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتعتبر مسألة تطبيع هذه الدول مع إسرائيل في صلب السياسة التي تبنتها الإدارة الامريكية السابقة لبناء هذا التحالف العسكري-الأمني والذي تعتبر إسرائيل محوره الرئيسي. ومنذ وصول الرئيس بايدن للحكم جعل من مسألة تطبيع المملكة العربية السعودية أهم أهداف سياسته الخارجية في الشرق الأوسط. ولتحقيق هذا الهدف، أعطى للرياض تطمينات بأن بلاده لازالت ملتزمة بتوفير الحماية العسكرية والأمنية لها. وعبرت الإدارة الامريكية عن استعدادها للتوقيع مع المملكة العربية السعودية على تحالف عسكري مماثل لذلك الذي يجمعها مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية. وبموجب هذا الاتفاق، يلتزم البلدان بتوفير الدعم العسكري لبعضهما البعض إذا تعرضا لهجوم عسكري في الشروق الأوسط أو في الأراضي السعودية. وكان هذا التحالف العسكري، الذي لم يخرج للوجود، بمثابة ضمان من الإدارة الامريكية أنها لن تتوان في الدفاع عن حليفتها الخليجية في حال تعرضت لهجوم إيراني. إلا أن التحول الذي طرأ على قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران وعدم إبداء واشنطن لأية رغبة في الدخول إلى جانب إسرائيل في حرب مباشرة ضد إيران، قد يدفع تلك البلدان العربية التي راهنت على الحماية الامريكية ضد التهديدات القادمة أساسا من إيران إلى مراجعة أوراقها والتساؤل حول الجدوى من المراهنة على هذه الحماية العسكرية. فإذا كانت الولايات المتحدة لم تبد رغبة في الرد بحزم على أول هجوم إيراني على الأراضي الإسرائيلية، فكيف يمكن لتلك البلدان العربية أن تتصور أن أمريكا قد تعمل على التدخل لحمايتها عسكرياً في حال تعرضت لهجوم إيراني أو هجوم من أي جهة أخرى؟