story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

‘بول بولز مترجما’

ص ص

‘بول بولز مترجما’ كتاب من الكتب النقدية المهمة التي تسلط أضواء كاشفة على العمل الذي أنجزه الكاتب الأمريكي خلال مقامه في المغرب، لكنه لم يحظ بالاهتمام اللائق بأهميته، لا في الوسط الإعلامي، ولا داخل الدوائر الأكاديمية المغربي. ولا تكمن أهمية هذا العمل، وهو من توقيع الكاتب والباحث الجامعي عبد القادر سبيل، في كشفه طبيعة عمل ‘بول بولز’ وهو يترجم الثقافة الشفاهية المغربية إلى لغته، بل أيضا في قدرته على تحليل التمثلات والتصورات الغربية، الأمريكية على الخصوص، حول هذه الثقافة.
لا بد من الإشارة أولا إلى أن كتاب ‘بول بولز مترجما’ صدر، في البداية، باللغة الإنجليزية. وصدر لاحقا بترجمة عربية وقعها المترجم والباحث محمد مفضل، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير. ويمكن أن نعدُّ هذا الكتاب مساهمة قيّمة في الدراسات الثقافية المحلية التي انتعشت منذ تسعينيات القرن على أيدي باحثين مغاربة أمثال عبد القادر سبيل وخالد البكاوي وخالد أمين وحميد منتصر… كانت مساهمات هؤلاء وغيرهم كثير، وما تزال، ترفد هذا الحقل بدراسات نقدية تبرز أثر الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية في تحولات النظرية والنقد الأدبيين في المغرب على امتداد العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.
ضمن هذا السياق التاريخي يندرج كتاب الباحث عبد القادر سبيل، إذ يكشف قناع ‘الغيرية’ في كتابات ‘بول بولز’. يجعل هذا الأخير من مصادر معلوماته مجرد ‘مخبرين’ لا يتمتعون بصفاتهم الحقيقية، ولا يتحمل أي مسؤولية أخلاقية أو أدبية تجاههم. هنا يقول الكاتب: “أن تكون مخبرا هو أن تتكلم في إطار تقليد يسمح بالتأييد” (ص. 46). يشي مفهوم ‘التأييد’ هنا بأن محمد شكري ومحمد لمرابط وإدريس بن أحمد الشرادي لا يتكلمون إلا ضمن التمثيل المرسوم مسبقا، وبأنهم مطالبون بعد الإدلاء بشهاداتهم/ إفاداتهم/ أخبارهم بالانسحاب إلى صمت لغتهم، كما يقول سبيل. “لا يتوفر شكري ولمرابط والشرادي على أي شهرة خاصة بهم في وطنهم. بل إن شهرتهم، وحتى أسماءهم، لا تنفصل عن شهرة بولز واسمه” (ص. 47).
هنا تكمن القيمة النقدية لكتاب سبيل. ذلك أن هؤلاء الثلاثة ليسوا سوى مجالات تمثل ‘الغيرية’ عند الكاتب ‘بول بولز’. وتحدد نصوصُهم (الشفاهية) وجودَهم بوصفه هامشا مغريا بصور الآخر الأسود، المتوحش، الهمجي، المتخلف، التابع، المستبعد، المنغلق على ذاته، الفاقد لذاكرته، العاجز عن التعبير عن نفسه كتابة… بينما ينبري ‘بول بولز’ بوصفه الكائن الذي يناقض كل هذا الصفات، لأنه قادر على الكتابة عنهم وتمثيلهم عبر صور وأوصاف يعجزون عن اجتراحها.
ومن خلال الوقوف عند تمثلات ‘بولز’ هذه يكون عبد القادر سبيل قد توغل عميقا في مفارقات هذه الثنائيات المتضادة- بتعبير إدورد سعيد- التي يستند إليها الخطاب الغربي في تعاطيه مع الإنسان، ليس المغربي فحسب، ‘الشرقي’ عموما. وبالطبع، تختلف آليات هذا التعاطي من كاتب لآخر، لكنها تتخذ عند ‘بول بولز’ من الترجمة استراتيجية أساسية في باب التمثيل. وهي تتخذ، كما يقول سبيل، شكل ‘تغيير’ و’تحويل’، بل شكل ‘تحوير’ و’تشويه’ و’إزاحة’ و’تكييف’ لهذا الآخر (ص. 7). يتحول شكري ولمرابط والشرادي، في نص ‘بول بولز’، إلى حقول معرفية وفضاءات جسدية، وتزاح هوياتهم الحقيقية جانبا، وتكتم أصواتهم، لتفسح المجال أمام انسياب تمثيلات مغايرة، الغاية منها الاستجابة لأفق القارئ الغربي وتلبية انتظاراته واستيهاماته.
يمكن القول، ختاما، إن الكتاب محاولة نقدية تستعيد أصوات شكري ولمرابط والشرادي؛ أي أن الكتاب يروم تفكيك خطاب التمثيل وبناه عند ‘بول بولز’، وعند الغرب برمته، واستعادة صوت الثقافة المحلية لتعبر عن نفسها بنفسها. وإذا كان هذا الخطاب موسوما بالهيمنة، فإن نقده وتفكيكه يسعيان إلى نقض هذه الهيمنة وتقويضها، والعمل على إعادة الارتباط بالثقافة المحلية. هنا، تكمن أهمية ما قام به عبد القادر سبيل في كتابه هذا الذي يمنحنا- هو وغيره من الكتب- فرصة تجديد استمرارية الفكر المغربي، الذي أصابته الكولونيالية بشروخ وتشظيات عديدة.