مصطفى كرين يكتب: الحاجة إلى استفتاء ينهي إحساس القرصنة الحضارية عند المغاربة

السؤال الذي يطرح نفسه بخصوص مدونة الأسرة ليس ذلك المتعلق ببعض الفصول والأبواب، وإنما هو ذاك الذي يتعلق بالمغزى من النقاش ذاته، ذلك أنه يتجاوز حدود النقاش المجتمعي ليتحول إلى صراع بين مجتمعين: مجتمع أقلي مدعوم ومجتمع أغلبي مكلوم.
وإذا كان النقاش من حيث المبدأ يعتبر ظاهرة صحية، فإن هذا النقاش بالضبط يعكس حالة مرضية تتعلق بمعاناة حقيقية وعميقة للجسم المغربي حول حقيقة وجود مشروع مجتمعي للمملكة المغربية من دونه، وليس فقط، بل هو نقاش حول شكل الدولة نفسها في المغرب، لأنه ليس مملكة أنشأت بقوة القانون الدولي أو بقرار أممي، بل هو مملكة نشأت بمقتضى قاعدة شرعية أساسها ميثاق البيعة بين المغاربة والنسب الشريف على أساس مجموعة من الالتزامات والثوابت والمرتكزات والتعاقدات، وأنتجت على إثر ذلك حضارة لها من العمق ما يجعلها تقريبا جزءً من الحمض النووي للمغاربة. لذلك يعتبر النقاش حول المدونة خارج هذه المعطيات، مفترق طرق في سيرورة وصيرورة الدولة المغربية وليس مجرد قانون كغيره من القوانين.
وبغض النظر عن أي موقف شخصي، فإن تفاعلات وردود أفعال الشارع المغربي حول ما تسرب لحد الساعة بخصوص مقترحات الأطراف المشاركة في صياغة مشروع تعديل المدونة، يظهر أن المواطن المغربي أصبح لديه إحساس بأن عملية قرصنة حضارية وسياسية للبلاد جارية على قدم وساق من طرف مؤسسات أصبحت غريبة عنه وأصبح غريبا عنها، حتى لا يكاد المغربي اليوم يعرف باسم من تتكلم هذه المؤسسات ولمن تشرع وتقترح أصلا، ويرى أنها استعملت بغير أمانة صلاحية الاقتراح الممنوحة لها، لتفرض مقترحاتها قسرا عليه، حتى يصل الأمر أحيانا إلى طرح سؤال مدى أهلية وشرعية أعضاء هذه المؤسسات القائمة أصلا على مبدأ التعيين، وفق المعايير والطرق التي يعلمها الجميع، لتثبيت منظومة قيمية واجتماعية لا تقنع سوى بعض الأقليات والأجندات الخارجية ضدا على التوجه الساحق للشعب المغربي.
وحيث إن الأمر كذلك، فإن الحسم في المقترحات المتعلقة بمدونة الأسرة يحتاج، لمصلحة الجميع، أن يمر عبر استفتاء شعبي، تتم الدعوة إليه طبقا لمقتضيات الدستور، وإن كانت هذه التي صارت تسمى “أزمة المدونة” دليلا على الحاجة إلى تعديل الدستور ذاته، لأن الفشل في التوافق بين مختلف المؤسسات، لحد الآن، حول ما الذي يجب أن تحمله المدونة لمصلحة الأسرة المغربية، إنما يندرج ضمن حالة من الفشل الجماعي للمؤسسات الدستورية المنبثقة عن دستور 2011، والتي صارت إما مرتعا وراعيا للفساد، أو حصان طروادة لبث الخلافات والتفرقة وتغريب المجتمع المغربي عن نفسه وعن ثقافته.
فالمجلس الوطني لحقوق الإنسان صار نموذجا للفشل وتبذير المال العام ووكرا لتفقيس الخلافات السياسية والأيديولوجية بين مكونات المجتمع المغربي وضدا عليه، وهيئة محاربة الرشوة صارت فأل خير وبركات على الفساد بمختلف أنواعه في المغرب حتى ازدهر واخترق كل القطاعات السياسية والاقتصادية، ومجلس المنافسة صار مجرد شاهد على منظومة وعصابات الاحتكار في المغرب، بل وأحيانا غطاءً غير مباشر لها، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لا يبرر حتى ثمن الوقود الذي يصرفه أعضاءه في تنقلاتهم ولم يصدر عنه لحد الساعة ما يصعب الحصول عليه عبر محرك غوغل، والمجلس الأعلى للحسابات نفسه صار مستوجبا للمحاسبة نظرا للتكلفة المهولة، في ظل نتائج انتقائية وبدون أثر تقريبا على منظومة الفساد المستشري في شرايين البلاد، والأحزاب صارت عائقا في طريق ارتقاء المجتمع المغربي بواقعه اليومي، والبرلمان صار يشرع لأعضائه ولحماية مصالحهم وامتيازاتهم أكثر مما يشرع للمجتمع، وأعضاء الحكومة صاروا أطرافا في صفقات مالية وتجارية ضربت عرض الحائط بمبدأ التنافي والتنافس الحر، والآن وصلنا لمرحلة صار لدى الناس فيها إحساس بأنهم من الآن فصاعدًا سيأخذون أمور دينهم من المؤسسات والمنظمات الدولية ومن مجالس معينة ومؤقتة في الزمن، ومن برلمان وحكومة في حالة أزمة ، وليس مما تعارفوا عليه في الكتاب والسنة والمذهب.
لذلك قلنا إن الأمر جلل، وأن النقاش حول المدونة يشكل مفترق طرق لا ينفع معه سوى تفعيل المقتضيات المتعلقة بتنظيم الاستفتاء حتى تتمتع التعديلات المقبلة بدعمٍ مجتمعي يجعلها قابلة للتطبيق ويجنبها التحول إلى سبب للفتنة.