صلاح الدين ايشن يكتب: مراجعة مدونة الأسرة.. عرض ونقد
من الطبيعي أن يرافق مراجعة قانون مدونة الأسرة كل هذ النقاش المجتمعي وهذا التفاعل السياسي على عكس مجموعة من التعديلات التي تطرأ على قوانين أخرى، وهذا راجع أساسا إلى أن هذا القانون ينظم مؤسسة رئيسية في تشكيل وبناء المجتمع، قانون يرتبط وجوبا بمجموعة من القضايا المحورية التي تهم المجتمع والدولة؛ وكذلك لأن هذه المراجعة بالذات تأتي في سياق دولي خطير يعاني آثار ما بعد الحداثة.
عموما، رغم أن الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة نصت بشكل صريح على أن المراجعة يجب أن تقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها التطبيق القضائي لأحكام المدونة، لكن بعد شروع لجنة مراجعة مدونة الأسرة في استقبال المقترحات التي تقدمت بها مختلف الهيئات الحزبية والحقوقية وكل مكونات المجتمع المدني الفاعلة في هذا المجال؛ تعالت الأصوات والآراء المنادية بضرورة الإصلاح الشامل لمدونة الأسرة بتحرر تام من ثقل المرجعية الإسلامية، الأمر المنافي تماما لأحكام الدستور خاصة تصديره والفصل 1، 7، 19، 32…، الدعوة التي أعادت التقاطب الأيديولوجي بين التيار الإسلامي والتيار الحداثي إلى الواجهة، اللذان ساهما منذ مدة طويلة في تأطير وتشكيل وعي أفراد المجتمع المغربي. قبل أن نشرع في عرض أهم النقط الخلافية بين هاذين التيارين، لابد من إشارات تاريخية بسيطة نؤطر بها هذا العرض.
من المعلوم أن العلاقات داخل الأسرة المغربية بعد الاستقلال، تم تنظيمها بقانونين: بداية مع مدونة الأحوال الشخصية سنة (1957ـ1958)، التي تميزت بحرصها على اعتماد المذهب المالكي وإظهار الثروة الفقهية لشريعتنا الإسلامية، والدليل على ذلك أن اللجنة المعينة من طرف الملك محمد الخامس آنذاك ترأسها العالم والزعيم الوطني علال الفاسي رفقة ثلة من العلماء بعيدا عن الخبراء القانونيين أو الفاعلين السياسيين، ليستمر الاعتماد على هذه المدونة حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي الذي عرف ظهور الحركات النسائية (ليس النسوية) و زيادة مطالب الإصلاح الدستوري من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود، وبعد مسلسل طويل من النقاش العمومي والسجال بين مختلف تيارات المجتمع والأحزاب السياسية الذي امتد حتى السنة الأولى من الألفية الثانية (27 أبريل 2001) ليتم الإعلان عن لجنة استشارية عُينت من طرف الملك محمد السادس؛ وأسندت رئاستها إلى الفقيه الدستوري ادريس الضحاك، بعده المناضل السياسي محمد بوسته والمميز في تركيبة هذه اللجنة أنها ضمت علماء، قضاة، ومتخصصين في مجالات أخرى كعلم الاجتماع والطب، والذي ميز هذه اللجنة أيضا هو ضمها لثلاث نساء لأول مرة (إشارة إلى المكانة التي تحظى بها المرأة في المغرب مجتمعا ودولة)، شرعت اللجنة في عملها حتى يوم 10 غشت 2003 حيث أعلن الملك عن مضامينها، ثم إحالتها على السلطة التشريعية للحسم فيها وذلك دلالة على تفعيل الأدوار التشريعية للبرلمان، وهذه نقطة أخرى تميزت بها هذه المدونة على سابقتها. ثم انتظرنا 20 سنة من التطبيق لإعادة فتح نقاش مراجعة أو إصلاح أو تعديل قانون مدونة الأسرة؛ وذلك عبر مضمون خطاب العرش سنة 2022، ثم تشكيل لجنة ملكية مؤسساتية (المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وزارة العدل، رئاسة النيابة العامة، المجلس العلمي الأعلى، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، السلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة) مختلفة عن اللجان السابقة التي ذكرنا صفات أعضائها فيما سبق.
بعد هذه اللمحة التاريخية المقتضبة لقانون الأسرة بالمغرب، نعود لمحاولة إبراز أهم النقط الخلافية بين الإسلاميين والحداثيين التي تصدرت النقاش العمومي ببلادنا، التي يمكن عرضها على الشكل الآتي:
أولا، المادة 400 من المدونة؛ التي تنص على الاحتكام إلى اجتهادات المذهب المالكي في حالة غياب نص قانوني يؤطر قضية ما، التي تزايدت مطالب الغائها من طرف التيار الحداثي بدعوى أنها تقيد الاجتهاد القضائي وأن واقع قضايا المجتمع المغربي اليوم تجاوز اجتهادات هذا المذهب، لكن موقف الإسلامين يطالب بضرورة الإبقاء عليه لما يمثله هذا المذهب عند عموم الشعب المغربي؛ الذي ارتبط به مع نشأة الدولة المغربية منذ 12 قرن، وكذلك التخلي على هذا المذهب سيؤدي إلى فصل الأسرة عن المرجعية الإسلامية و نزع الصبغة الدينية والشرعية عن مؤسسة الزواج مما يتعارض مع أحكام الدستور المغربي.
ثانيا، مسألة الإرث الذي تصاعدت مطالب إعادة النظر في المسطرة المعتمدة في تقسيمه، حيث يؤكد التيار الإسلامي بكل توجهاته على ضرورة الالتزام بمقتضيات الشريعة الإسلامية؛ بحكم أن هذه المسألة منظمة بنصوص قرآنية قطعية الدلالة، والتي تلتزم بها المدونة الحالية، في حين ينحو التيار الآخر منحى إعادة النظر في مجموعة من المقتضيات المعمول بها وذلك ملاءمة لعدة حالات في المجتمع المغربي كمسألة التعصيب مثلا، مع التأكيد على ضرورة ضبط مساطر تمكين المرأة من حقها في الإرث، لأن المحاكم لا تزال تعج بقضايا كثيرة في هذا الباب ينتج عن طولها إحجام المرأة عن المطالبة بحقوقها إما خوفا أو عجزا أو جهلا.
ثالثا، النسب، من بين أكثر النقط المختلف حولها، حيث يدعو التيار الحداثي إلى ضرورة إعادة النظر في المادة 148 من المدونة التي تنص على عدم الاعتراف بنسب الأبناء الذين يزدادون خارج إطار الزواج حيث يتم وصفهم على أنهم أبناء غير شرعيون، والتي يعتبرها هذا التيار مسألة مجحفة في حق هؤلاء الأطفال حيث لا مسؤولية لهم في ذلك، والأكثر من ذلك اعتبارهم لهذه العلاقات الخارجة عن إطار الزواج على أنها علاقات رضائية تدخل في نطاق الحريات الفردية، ما أثار ثائرة التيار الإسلامي الذي يرى في هذه العلاقات “زنا واضح”، لكن المولود من الزنا بريء من زلة والديه، وله الحق في الرعاية والكفالة من طرف المجتمع. أما مسألة النسب هي لحمة شرعية بين الأب وابنه، ينبغي تضييق دائرة الخبرة في إمكانية إعطاء النسب إلى أبعد الحدود بما يتوافق مع مواد المدونة من حيث أسباب ثبوت النسب وذلك سدا لذريعة الفساد وزيادة أعداد أبناء الزنا.
رابعا، تعديد الزوجات أباحته الشريعة الإسلامية بنص قرآني قطعي وراعت في ذلك مصلحة المرأة والأسرة، وقيدت هذه الإباحة بقيود واضحة أساسها القدرة والعدل بين الزوجات ونظمتها كذلك أحكام المادة 40 من المدونة الحالية، هذا الذي دفع التيار الإسلامي للتأكيد على ضرورة الإبقاء على إباحته لما له من مقصد شرعي مع مراعاة القيود الموضوعية، مع ابراز الميزات التي يحققها كإيجاد الحلول لمشكل العنوسة عند النساء، لكن في المقابل يرى الحقوقيون أن الإبقاء على هذا الأمر في مدونة الأسرة هو استمرار في تقوية الرجل على حساب المرأة وتشيء لها كذلك، حيث يفهم منه على أن الرجل يمكن اقتناء زوجة أو اثنتين أو ثلاثة…كمختلف السلع.
خامسا، زواج القاصر أو الزواج دون سن الأهلية الذي يعتبره الحداثيين اغتصاب للطفل وحرمانه من الحقوق المكفولة له عبر المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، أبرزها الحق في التمدرس والحق في النضج كذلك، لأن فرض مسؤولية تكوين أسرة على طفلة أقل من 18 سنة هي مخاطرة بمؤسسة الأسرة وبالمجتمع أيضا. في المقابل يؤكد أيضا التيار الإسلامي على أن الرشد يُسهم في الاستقرار الأسري، لكن تحصين الشباب من الوقوع في الرذيلة مطلب شرعي، ومن الضروري الإبقاء على إمكانية الإذن بزواج من اقتربت من السن القانوني للزواج كما هي جل القوانين المتعلقة بالأسرة في العالم، والدعوة إلى تجويد المادة 20 من المدونة، من خلال التنصيص على إلزامية الجمع بين البحث الاجتماعي والخبرة الطبية، وترك هذا الأمر للسلطة التقديرية للقاضي.
هذه أهم النقط الخلافية بين التياران حسب ما استطعنا جمعه واستحضاره ضمن هذا المقال، وإلا فالنقاش المجتمعي أثار الكثير من النقط المختلف حولها كمسألة الحضانة، تقسيم الممتلكات، النفقة التقديرية، الحبس أو النفقة، الوصاية للأم الحاضنة… في انتظار الحسم فيها من طرف السلطة المختصة.
ختاما، نود التأكيد على أن المجتمع المغربي في حاجة لقانون أسرةٍ يراعي خصوصيته الدينية والثقافية والحضارية وتراكمه التاريخي في تحصين مؤسسة الأسرة، والابتعاد عن كل التصورات والآراء التي يأتي بها “دعاة الحداثة” المستلبون لتيار ما بعد الحداثة في الفكر الغربي الخصب والمليء بالقيم الإنسانية والحضارية، هذا التيار الغريب على مرجعه بداية، ينهل من مرجعيات ستتلاشى مع مرور الوقت، كالمادية، الفردانية، الشهوانية والحرية غير المقيدة والأنانية… وهذا الذي يجب أن نفطن به دولة ومجتمعا، فالمراد في نهاية المطاف هو استهداف الفرد (المواطن المغربي المسلم)، عن طريق استهداف كل المكونات التي تحفظ له هويته وتاريخه وقيمه أي المجتمع والأسرة.