مختصون يناقشون تجديد منهجيات البحث في العلوم الاجتماعية لمواكبة التحولات

أكد مختصون على أهمية تجديد الأدوات المنهجية والفكرية في حقل العلوم الاجتماعية لمواكبة التحولات الاجتماعية العميقة التي يشهدها العالم، معتبرين أن اعتماد الأساليب التقليدية “لم يعد كافياً” لفهم الواقع المعقد والمتحول، بل يتطلب تطوير آليات جديدة للفهم والفعل.
وذلك خلال ندوة علمية سنوية في موضوع: “علم الاجتماع والتحولات المجتمعية: الضرورة والإمكان، رؤى متقاطعة”، الأربعاء 18 يونيو 2025 بكلية علوم التربية، جامعة محمد الخامس بالرباط، من تنظيم الجمعية المغربية لعلم الاجتماع.
في هذا السياق، اعتبرت السوسيولوجية عائشة بلعربي أن التحولات العميقة التي يشهدها العالم منذ مطلع العقد الأخير، تُحتّم على الباحثين في علم الاجتماع في المغرب إعادة النظر في أدواتهم المنهجية والفكرية، مشددة على أن “الأساليب التقليدية لم تعد قادرة على مواكبة تعقيدات الواقع الاجتماعي الراهن”.
وأكدت بلعربي أن جائحة “كوفيد-19” شكلت “لحظة فاصلة في إدراكنا للعلاقات الاجتماعية، بعدما فرضت عزلة جماعية وتوقّفًا قسريًا للتفاعل البشري المباشر، لصالح تواصل افتراضي أصبح هو القاعدة في العمل والتعليم والحياة اليومية”.
وأضافت أن “ما بعد الجائحة جاء مشبعًا بأزمات متلاحقة وحروب واضطرابات طالت مختلف أنحاء العالم، ما يجعل سؤال التوازن والتكيّف مطروحًا بإلحاح، لا سيما بالنسبة للشباب الباحث عن الانسجام بين تطلعاته الفردية وسياق عالمي مضطرب”.
وطرحت بلعربي تساؤلات محورية حول كيفية التفكير في هذا الاضطراب، وإمكانيات العيش وسطه، معتبرة أن “العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم الاجتماع، باتت اليوم أكثر من ضرورة، لا لفهم ما يجري فقط، بل أيضًا لإنتاج أدوات جديدة للفعل والمساهمة في التغيير”.
وشددت الباحثة المغربية على أن العالم يعيش حالة من اللايقين الواقعي، مضيفة أن هذه الحالة لم تعد افتراضية أو نظرية، وإنما باتت ملموسة ومؤثرة في السياسات والاقتصادات والهويات، ما يُحتّم البحث عن سُبل علمية لإعادة بناء التوازن والاستقرار في خضم هذه التحولات.
وفي هذا الإطار، دعت بلعربي إلى ضرورة تحرير العلوم الاجتماعية من الإرث الاستعماري الذي ظل، بحسب قولها، “يُكبّل قدراتها على قراءة الواقع المغربي بعمق”، مبرزة أن المطلوب هو ربط هذه العلوم بالسياقات المحلية، تاريخًا وثقافة وهوية، والانخراط في دينامية نقدية وبنّاءة تُعيد للعلوم الاجتماعية دورها كأداة للفهم والتأثير المجتمعي.
واختتمت بلعربي كلمتها بالتأكيد على أن “رهانات المرحلة لا يمكن مواجهتها بمنهجيات تقليدية وأدوات قديمة، بل بتجديد الفكر والمنهج، والاقتراب أكثر من واقع الناس وتحولاتهم اليومية، بما يُمكّن من إرساء علوم اجتماعية متجذرة وفاعلة”.
من جانبه، سلّط المفكّر والأستاذ الجامعي عبد الله ساعف الضوء على مجموعة من التحديات التي تواجه حقل العلوم الاجتماعية، وخاصة علم الاجتماع، سواء على مستوى البحث الأكاديمي أو الخبرة التطبيقية.
واستهلّ ساعف حديثه بالتذكير بما شكّله علم الاجتماع من أهمية خلال الحياة الجامعية للطلبة والباحثين، حيث مثّل “أداة لفهم المجتمع وتحليله”، مشيرا في المقابل، إلى أن الخبرة التطبيقية (الاستشارة) طغت في كثير من الأحيان على الاستثمار في البحث العلمي العميق.
وأضاف أن الكثير من الباحثين اتجهوا إلى تقديم الخبرات (consulting) عوض تطوير مشاريع بحثية طويلة النفس، وهو ما خلق في نظره “معادلة دقيقة” بين الخبرة والبحث العلمي، تُطرح فيها تساؤلات حول الجدوى، والنشر، والاستفادة المجتمعية من هذه المخرجات.
وأشار ساعف إلى أن أغلب العقود والصفقات التي تُبرم مع الباحثين تكون في ملكية المؤسسات الطالبة للخبرة، مما يجعل الوصول إلى هذه الدراسات أمرًا صعبًا، باعتبارها لا تُنشر بشكل علني أو مفتوح، وبالتالي، تبقى المعرفة حبيسة الأدراج، محرومة من النقاش والتراكم العلمي.
وفي تقييمه لحصيلة البحث في العلوم الاجتماعية، انتقد ساعف الاكتفاء بالمستويات الأولية من التحليل، مؤكدًا أن “العديد من الدراسات تبقى مجرد مواد خام، توصف الظواهر دون التعمق في فهمها أو تنظيرها بالشكل المطلوب”.
وأوضح أن التحليل يجب أن ينتقل من المستوى الأولي (الوصف وقراءة الأرقام) إلى مستويات أعمق (الثاني والثالث)، حيث يتم الربط بين المعطيات والاتجاهات النظرية، واستثمارها في بناء معرفة قادرة على تفسير التحولات المعقدة التي يعرفها المجتمع المغربي.
واختتم ساعف مداخلته بالدعوة إلى تأسيس مجموعة علمية معرفية (groupe épistémique) تكون بمثابة هيئة علمية مستقلة تُعنى بضبط جودة الإنتاج العلمي، وتحكيمه وفق معايير رصينة وموضوعية.
وشدّد على ضرورة الاستماع إلى المتخصصين، وتمكينهم من الإسهام في تقييم الأعمال العلمية بموضوعية ومهنية، على غرار ما تقوم به المجلات العلمية المحكمة من خلال لجان تحرير وتقييم.