story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

عبد الله حمودي في درس افتتاحي: ثنائية الحداثة والتقليد تعيق فهم تحولات المجتمع

ص ص

حسنية حسيب

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه

استضاف مركز بول باسكون للأبحاث السوسيولوجية عالم الأنثروبولوجيا البروفيسور عبد الله حمودي، ليقدم الدرس الافتتاحي للمركز لهذا الموسم 2024-2025، في موضوع: “بول باسكون وقضية العلوم الاجتماعية: الرجوع إلى السابق والنظر في اللاحق”.
مَهَّد الدكتور صلاح الدين لعريني، رئيس مركز بول باسكون للأبحاث الاجتماعية، للدرس الافتتاحي بكلمة تقديمية، وذلك في ضيافة مؤسسة “صوت المغرب”، وبحضور مدير أخبارها يونس مسكين.
ومما قاله الدكتور لعريني: “إنه لشرف عظيم أن يأتي هذا الدرس على لسان عالم أنثروبولوجيا من الرواد الأوائل الذين رافقوا بول باسكون في مشروع تأسيس وتوطين السوسيولوجيا بالمغرب، بقصد تحريرها من إرساء النزعة الكولونيالية، وربط العلم الاجتماعي برهانات التنمية وقضايا التغيير الاجتماعي.
إن حضور الأنثروبولوجي عبد الله حمودي معنا اليوم هو حضور مزدوج؛ إذ يحضر كذات خلاقة استطاعت أن تشق مسارًا بحثيًا متفردًا، ديدنه إبداع المفاهيم واجتراح القضايا المجتمعية المركبة، في إنصات بليغ لصوت النقد العلمي متعدد الأبعاد، حيث لا مواربة، ولا تواطؤ، ولا تتردد، في الكشف عن حقائق الظواهر والمشكلات الاجتماعية، وهو يحضر كذلك كمرآة لذات أخرى تتقاسم معها قلق الأسئلة السوسيوأنثروبولوجية الحقيقية، وهَمّ بناء المعرفة العلمية النقدية الأصيلة. إنها الذات الباسكونية التي جعلت من روح الميدان الأداة المنهجية الاستراتيجية لمقاربة قضايا المجتمع، وأزماته، وإمكاناته، وجعلت من سوسيولوجيا الفعل والتدخل، المدخل التشاركي الكفيل بتحرير طاقات الذات الاجتماعية المغربية من الهيمنة، والتبعية، والإقصاء.
من جهته، سافر البروفسور عبد الله حمودي من خلال هذه الجلسة العلمية إلى محطات عديدة من تاريخه الشخصي والعلمي، التي تميزت بحضور رفيقه بول باسكون كذات وكفكر. ولخّص كل ذلك في كلمات: “تلميذه وصديقه المختلف عنه والودود معه”.
من أهم فقرات هذا الدرس والنقاش العلمي بين د. عبد الله حمودي وبول باسكون، سواء على مستوى المفاهيم مثل “الميدان” و”البحث” و”المجتمع المركب”، أو على مستوى التصورات.
تستند نظرية باسكون إلى أن جميع المجتمعات مركبة بطبيعتها، ويرى أن المجتمع المغربي وممارساته تتكون من جوانب تنتمي إلى أنماط إنتاج مختلفة، منها الفيودالي، والقيدالي، والعصري، والاستعماري، والتقليدي.
ويتجلى ذلك بوضوح في تكوين الوحدات الأساسية مثل الأرض، والماء، ورأس المال، حيث يظهر القطاع كمزيج مما هو رأسمالي وتقليدي، ومتجه نحو السوق أو مخصص لتلبية الحاجات العائلية والأسرية.
كان الاختلاف الفكري بين د. عبد الله حمودي وبول باسكون يتمثل في فهم كيفية اشتغال هذه العناصر غير المتجانسة. بالنسبة للمحاضر، هذه العناصر ليست قديمة أو جديدة، بل كلها معاصرة لأنها تُمارس اليوم كما أن هناك منطق يحكمها. كما كان يميل إلى تنظير يقوم على رفض فكرة المجتمعات الصافية، مؤكدًا أن كل المجتمعات مركبة.
اعتقد د. عبد الله حمودي أن منطق تركيب هذه المجتمعات يعتمد على الفكر الثقافي اليومي للناس، بغض النظر عن كونهم مثقفين أو مزارعين، رجالاً أو نساءً. فبالنسبة له، المجتمع والثقافة لا يمكن اختزالهما في حالة من الجمود، سواء في التقاليد أم فيما يُسمى بالحداثة.
ورفض د. حمودي ثنائية الحداثة والتقليد، ودعا إلى إعادة النظر في هذه التصنيفات الثنائية ضمن سياقات البحث والتنظير، معتبراً أنها تعيق الفهم العميق لتحولات المجتمع والثقافة.
شق البروفيسور عبد الله حمودي مساره الخاص في تطوير أنثروبولوجيا نقدية تستند إلى الميدان والواقع الملموس. واعتمد في أبحاثه على منهجية الحوار العميق مع الفاعلين المعنيين، سواء كانوا مزارعين، إداريين، أم مربي ماشية، مركزاً على مناطق متنوعة مثل الواحات وقرى الغرب. هذه المقاربة الميدانية منحته فهماً معمقاً للتفاعلات الاجتماعية والثقافية في تلك البيئات.
استثمر د. عبد الله حمودي تراكمات فكر بول باسكون، محاولًا البناء عليها وتطويرها، وتجاوز بعض جوانبها للمساهمة في تطوير علم الاجتماع.
كان يؤكد أن التنظير والبحث، وحتى المفاهيم، هي عمليات ديناميكية تتحول باستمرار لتعكس التحولات المتواصلة في واقع المجتمع. وبما أن المجتمع في تغير دائم، فإن النظريات والمناهج البحثية يجب أن تتكيف معه.
ومع ذلك، شدد على أهمية عدم القفز فوق ما أُنجز سابقًا، بل التعامل معه كتعبير عن واقع تاريخي، يبقى منه ما يظل صالحًا ويمتد منه ما يستمر تأثيره، بينما تتغير عناصر أخرى بما يتلاءم مع تحولات المجتمع وظروفه.
هذا المبدأ كان جوهريًا بالنسبة للعلوم الاجتماعية، كونها علومًا في حالة تحول دائم. الأنثروبولوجيا التي يدافع عنها د. عبد الله حمودي تُعتبر علمًا ذا طابع كوني، يرفض حصر العلوم الاجتماعية، كالأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا، والجغرافيا، في مشاريع تقليدية ومعزولة.
ويرى د. حمودي أن البحث العلمي ينبغي أن يُبنى على أسئلة عميقة وإشكاليات متعددة الأبعاد، مع تعزيز تداخل الفنون والعلوم. ولتحقيق هذا الهدف، يؤكد المحاضر على أهمية الجهود الجماعية لتجاوز الحدود التقليدية، وفتح المجال أمام رؤى جديدة تتسم بالابتكار والإبداع والتكامل.
اليوم، بات من الضروري الانتقال إلى العمل الجماعي، حتى في صياغة الإشكاليات وتشكيل الأسئلة، لأن البشرية بأكملها في “سفينة واحدة” تبحر وسط المجهول.
من هنا تنبع الحاجة إلى الاعتراف بالفروقات الثقافية، والنزاعات، والهويات المتنوعة، مع بذل جهد فكري لإرساء أسس إبستيمولوجية جديدة تستوعب التحولات غير المسبوقة والأزمات المتعددة التي نعيشها.
تعد أزمة البيئة مثالًا شاملًا للعديد من القضايا؛ فهي ليست فقط أزمة إنتاج أو أزمة في نظام الرأسمالية، بل هي أيضًا أزمة في الأفكار الثقافية والدينية، وأزمة في التعايش وتشكيل الأسر. تتجاوز الأزمة ذلك لتشمل مفاهيم الحب، والعشرة، والزواج، والإنجاب، وهي جميعها عناصر أساسية لإعادة إنتاج المجموعات البشرية.
في ختام درسه الافتتاحي، تناول د. عبد الله حمودي مفهوم “المجتمع” باعتباره كيانًا في حالة تحول دائم. أشار إلى أن ابن خلدون تحدث عن “الاجتماع” بدلاً من “المجتمع”، مما يفتح المجال لإعادة التفكير في كيفية تفاعلنا الاجتماعي وفي مفهوم “المجتمع” ذاته، الذي صاغه مفكرون مثل دوركايم وبورديو، والذي ربما تجاوزه الزمن.
هذا التصور، يستدعي النظر في العلاقات الممتدة مع الأرض بوصفها بيتنا الجماعي، ليس فقط للإنسانية، بل أيضًا للشجر، والماء، والنبات، وكل الكائنات، سواء كانت أليفة أو متوحشة.
هذه النظرة الشمولية للعالم تشكل المفتاح لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية التي نشهدها اليوم، وهي أساس لبناء رؤية مستقبلية تتسع لتحديات الزمن المعاصر.

يمكنكم مشاهدة عبد الله حمودي في درس افتتاحي “بول باسكون وقضية العلوم الاجتماعية.. رجوع إلى السابق ونظر في اللاحق” بالضغط على الرابط التالي.