story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الكتابة الفسيفسائية!

ص ص

لم يخطئ الكاتب التونسي عيسى جابلي، في تعليقه على رواية ‘الفسيفسائي’ للكاتب المغربي عيسى ناصري، حين قال إن روايته هذه تعلق قارئها على مشجب التشويق منذ السطور الأولى. أجل، إنها تفعل ذلك بحبكتها المتعددة وبنية أحداثها المتقاطعة وأسلوبها الرشيق ولغتها المتينة… لكن أبرز ما يلفت انتباه القارئ هو اختيار مؤلفها الفني؛ ذاك الكامن في نسجها على لوحة الفسيفساء: ثمة ثلاث فسيفساءات (واحدة بباريس، وثانية بيت جواد، وثالثة تحت ردم وليلي) وثلاث روايات (ليالي وليلي، الفتى الموري، باخوس في العيادة) وثلاث فضاءات (مكناس، زرهون، وليلي)، الخ.
وبنية رواية ‘الفسيفسائي’ هي بنية مركبة ومتداخلة من حيث الأحداث والأزمنة والأمكنة. من ناحية أولى، ثمة ثلاث حكايات/ أحداث رئيسة مقسمة على فصول منفصلة فيما بينها، هي حكايات الروايات الثلاث المشار إليها إعلاه، فضلا عن حكاية جامعة رابعة تتمثل في ما يقوم به مفتش شرطة لحل لغز جريمة معقدة. ومن ناحية ثانية، يتواصل الحكي ذهابا وإيابا بين تسعينيات القرن الماضي (زمن الحكاية الجامعة) والعصر الروماني (زمن رواية ‘الفتى الموري’). أما العنصر الثالث، وهو المكان، فيتوزع على فضاءات مختلفة في مكناس وزرهون ووليلي/فرطاسة (العيادة، بيت جواد، النزل، البيت المستأجر بزرهون، المقهى، الموقع الأثري في وليلي، المدرسة، الفيلا…).
واستثمر الكاتب مصادر أخرى في بناء أحداث روايته وتسلسلها، إلى جانب الروايات الثلاث التي تضمنتها الرواية الجامعة، منها: مذكرات، أحلام ورؤى، قصاصات صحافية، مراسلات، اقتباسات معرفية، الخ. تحتل هذه المصادر مواقع خاصة داخل الرواية، وتطرز المتن الروائي، سواء بما تقدمه على مستوى تطور الحدث الروائي، أو بما تبلوره من معارف تعكس مستوى الشخصيات. ينبغي ألا ننسى أننا أمام شخصيات متعلمة (أستاذ وروائي، مدير مدرسة وكاتب، طبيبة نفسانية وكاتبة، باحثة أمريكية وروائية، مفتش شرطة وقارئ نهم…). ومما لا شك فيه أن أحد أهداف توظيف هذه المصادر يكمن في خدمة تلقي الرواية على العموم.
في هذا الجانب- أي تلقي الرواية-، لا بد أن تقود قراءة الرواية إلى السؤال التالي: ما الغاية من تأليف رواية في موضوع سبق أن تناوله روائي آخر هو محمد أمنصور؟ تلتقي رواية أمنصور ‘دموع باخوس’ مع رواية ‘الفسيفسائي’ في معالجتمها سرقة تمثال إله الخمر الروماني من وليلي سنة 1982؛ ومن ثمة، معالجتهما موضوع سرقة الآثار في المغرب. أضف إلى هذا حضور الآخر الغربي من خلال ‘شيلا’ الأمريكية في رواية أمنصور، و’أريادنا نويل’ و’لينا’ الأمريكيتين في رواية ناصري. هل الأمر مجرد مصادفة؟ أم أنه يتعدى ذلك إلى مشاكسة روائية بين العملين، قد يكون الغرض منها تقديم مشهدية تخييلية مغايرة حول الموضوع؟ الإجابة عن هذا الإشكال رهينة بما سيقدمه التلقي النقدي حول هذه المشاكسة المفترضة حتى الآن.
ثمة ملاحظة أخيرة تتعلق باللغة السردية في رواية ‘الفسيفسائي’ (وهي ملاحظة تهم، في الحقيقة، مجموعة من الأعمال الروائية المغربية والعربية). قلت إن هذا العمل يتألف من ثلاث روايات رئيسة ورابعة جامعة. لكل واحدة منها سارد خاص؛ أي أن كل واحدة منها ينبغي أن تتميز عن الأخريات بلغة خاصة، بصوت خاص، بأسلوب خاص، بمفردات خاصة… للأسف الشديد، هذا التنوع الصوتي/ اللغوي المفترض منتفٍ في ‘الفسيفسائي’، إذ نقرأ الرواية بنفَس سردي/ لغوي واحد من البداية حتى النهاية. كان من المفروض أن تكون لغة الرواية ‘فسيفسائية’ أيضا، بما يسمح بظهور تباين واختلاف لغات الأستاذ والطبيبة والروائي الأمريكية، على غرار تباين واختلاف رؤى شخوصها وأحداثها وأمكنتها وأزمنتها، الخ.
ومع ذلك، لا بد من القول إن هذه الملاحظة لا تقلل من أهمية الرواية، كونها تمثل إضافة نوعية إلى الأدب المغربي المعاصر الذي يجدده شباب متحمس راغب في تجاوز انغلاق تجريبية الجيل السابق، وفي ترسيخ نمط أدبي قائم على تعميق التجربة الإبداعية، دون أن ينسى توسيع هوامش القراءة والتلقي. وبما أن السارد أشار، في نهاية الرواية، إلى أن الرواية مرشحة إلى جائزة مرموقة في الإمارات، فإنني أرشح ‘الفسيفسائي’ للفوز بجائزة البوكر العربية، وإلا ستكون من نصيب ‘قناع بلون السماء’ للفلسطيني باسم خندقجي. تقتضي الموضوعية ألا تخرج الجائزة عن أحد من الاثنين.