يوم “حجب” أخنوش تهنئة الملك

بما أن باب البوح ببعض من خبايا لعبة المال والسلطة وتكميم الأفواه مفتوح هذه الأيام، دعونا نعبره لننثر نزرا قليلا من العجائب التي تحصل في كواليس معركة الكلمة والصحافة والتعبير الحر والمختلف.
بوح يفترض أن موعده المبدئي هو التاريخ، حرصا على عدم تحطيم ممكنات البناء والتجاوز في الحاضر؛ لكن وبما أن سلاح المال ضد التعبيرات الحرة قد استلّ هذه الأيام، وبات التلويح به سافرا بطرق مختلفة، تبدأ من التشريع ولا تنتهي عند المراسيم والقرارات الإدارية، فلنرفع الغطاء جزئيا، وبحذر شديد خوفا من انتشار الروائح الكريهة.
أتذكّر لكم اليوم واحدة من القصص الحقيقية جدا، والواقعية كليا، حول خطورة الممارسات التي تجري عبر أدوات الهيمنة والتنميط وإسكات الجميع. وهي قصة مرتبطة بعيد العرش الذي نحتفل به هذه الأيام، والمناسبة شرط كما يقال.
كانت هذه الذكرى تقترب في إحدى سنوات إشرافي الاضطراري على إدارة نشر جريدة “أخبار اليوم”، وكانت وقتها الأوضاع المالية للمؤسسة قد تدهورت بشكل كبير.
كان من بين ما اهتديت إليه شخصيا وعمدت إلى القيام به في إطار محاولاتي تحمّل مسؤليتي في الدفاع عن الجريدة وضمان استمرارها، أن قررت الشروع في توجيه نقد مباشر إلى بعض المؤسسات العمومية الكبيرة، بتسميتها وتسمية مسؤوليها وإبراز صورهم، باعتبارهم مساهمين في إعدام الجريدة، بحرمانهم إياها من إعلانات مؤسساتهم، دون أي مبرر قانوني أو اقتصادي، بما أنهم كانوا ينشرون تلك الإعلانات في منابر إعلامية أقل انتشارا ومقروئية.
وعندما اقتربت ذكرى عيد العرش، وهي واحدة من المناسبات التي تضخ فيها هذه المؤسسات العمومية ميزانيات كبيرة في سوق الإعلانات عبر شراء مساحات مخصصة لتهنئة الملك، فوجئت باتصال صديقة قديمة، جمعتني بها إحدى تجاربي الدراسية العليا، دون أن نكون زملاء، لاختلاف التخصصات، والتي طلبت مني تمكينها من موعد للقاء ضروري وعاجل.
وبالنظر إلى مجال اشتغال هذه الصديقة، وعدم ارتباطنا بصداقة قوية تستدعي اللقاء بدون سبب، فهمت أن للأمر علاقة برسالة من الرسائل التي تبلّغ إليّ بهذه الطرق، وهو ما لا أمانع فيه لوجود حاجة دائمة للتواصل مع أهل الحل والعقد ولو بشكل غير مباشر.
حدّدنا موعدا صباحيا للإفطار معا في أحد المطاعم، والتقينا وتحدّثنا كأصدقاء كما هي العادة في مثل هذه الحالات، أي في أحوال الجو والاختناق المروري وذكريات الدراسة… قبل أن نصل إلى ” المسݣي”.
كانت صديقتي هذه مبعوثة من مسؤول كبير يتولى إدارة إحدى المؤسسات العمومية الضخمة.
أبلغتني سلامه وتحياته وتقديره… ثم كانت الرسالة كالتالي:
“أعلم أنك اخترت استراتيجية إحراج المسؤولين عن المؤسسات العمومية بخصوص موضوع الإشهار والإعلانات، وهذا حقك ولا عتاب عليك. لكنني لن أستطيع إدراج جريدتكم ضمن منابر نشر التهنئة الخاصة بعيد العرش، لأنني بكل بساطة سأعرّض نفسي للخطر من جانب عزيز أخنوش”.
نعم، هذا الحديث جرى في 2019، أي حين لم يكن أخنوش ذلك الزمان هو أخنوش اليوم. بل مجرّد وزير للفلاحة، لكن نفوذه وقدرته على التأثير في مصائر الخلق تصل درجة خوف مسؤول عمومي كبير من مجرد نشر إعلان يهنئ فيه الملك في جريدة يستثقلها الوزير.
“طيّب ما المطلوب مني؟”، سألت صديقتي. فكان الجواب محضّرا وجاهزا: المطلوب منك أن تتفهّم الموقف فقط، وتتجنّب أي هجوم ضد السي “…”، في مقابل اتفاق ووعد لا يخلفه، بشراء مساحة إعلانية لفائدة المؤسسة، لكن بعد مرور شهرين أو ثلاثة بعد عيد العرش.
“تقترحون وعدا فقط أم اتفاقا؟”، سألت صديقتي. فكان الجواب أن العرض هو اتفاق رسمي، يمكن توثيقه بكل شفافية، لحماية مصالح الطرفين: مصلحة المسؤول الذي يخشى أخنوش، ومصلحة الجريدة التي تريد موارد مالية لتغطية نفقاتها.
من موقعي الذي كنت أدبّر فيه الوضع بتوازن دقيق بين حماية استقلالية الجريدة، والسعي إلى ضمان بقائها الاقتصادي بكل الوسائل المشروعة الممكنة، في سياق عاصفة يعرفها الجميع؛ اشترطت على محاورتي إبرام الطلبية فورا وقبل حلول ذكرى عيد العرش، رغم أنني في الحقيقة لم أكن أستحضر تلك المؤسسة في مخيلتي ولا حتى “أطمع” في إعلاناتها، ولا فكّرت يوما في اللجوء إلى أي سلوك يمكن أن ينطوي على الابتزاز.
كانت الحملات الإشهارية تمرّ دون ضغط تحريري، بل نترك القسم التجاري يقوم بعمله، مع دعمه بفتح قنوات الاتصال… ثم كنت أقوم بين الحين والآخر بوضع مسؤولي بعض المؤسسات العمومية الكبرى أمام مسؤولياتهم التاريخية، عبر تسميتهم واتهامهم بالمشاركة في إعدام الجريدة.
بالفعل، عدت إلى المكتب، وطلبت من موظفة (…) في القسم التجاري تغيير المراسلة الخاصة بعروض تسويق المساحات الإعلانية لتلك الفترة، والموجهة لتلك المؤسسة، بطلب إرسال طلبية شراء(Bon de commande) تتعلق بفترة لاحقة وبعيدة زمنيا عن عيد العرش. وتم ذلك بالفعل، واشترت هذه المؤسسة تلك المساحة، ونشرنا إعلاناتها الإشهارية بدلا من تهنئة رئيسها للملك.
لا أروي هذه القصة للتشكي أو لاستدرار التعاطف، بل لتذكير الجميع بخطورة التلاعب بحرية الرأي والتعبير، وتحويل المال العام، سواء في شكل إعلانات أو دعم عمومي، إلى أداة لتشكيل خريطة إعلامية مشوّهة: تُنعش منابر وتُجهز على أخرى، لا على أساس المهنية أو الحاجة، بل وفق منطق الولاء أو الإزعاج.
المفارقة المؤلمة أن الدولة، التي تتحمل المسؤولية الأولى عن هذا الخلل، تصبح بدورها أول المتضررين منه، حين يُمسك بعض المنتفعين، بمفاصل القرار ويحوّلونها إلى أدوات للتعمية والتضليل، فيعزلونها عن نبض المجتمع، ويُعمّقون الهوة بينها وبين المواطنين، ويُراكمون الأخطار التي لا تُرى إلا بعد فوات الأوان.
الحكاية إذن ليست عن جريدة عانت الحصار، ولا عن مسؤول خاف من ظِلّ نفوذ، ولا عن صفقة إشهارية مؤجلة بحسابات السلطة ودعم يصرف بمنطق الولاء، بل عن منطق أعوج يحكم علاقة الإعلام بالمال والقرار في هذا البلد.
حين يُصبح “الإعلان” والدعم العموميان أداة للترغيب والترهيب، و”التهنئة” للملك وسيلة لتصفية الحسابات الصغيرة، نفهم أن معركة الصحافة ليست فقط مع قوانين جائرة أو واقع اقتصادي هش، بل مع ثقافة سلطوية تُدير الكلمة كما تُدير المناصب والعقود: بمنطق المكرمة لا الاستحقاق، وبميزان الولاء لا المهنية.
إن أخطر ما في هذه القصة، وأمثالها كثير، ليس حجم النفوذ ولا أسماء المتورطين، بل هذا الصمت العام الذي يجعل من الوقائع العجيبة مجرد تفاصيل هامشية، بينما هي جوهر ما يجب أن يُفضح ويُفكّك ويُقاوم.
فلنواصل البوح، لا انتقاما ولا نواحا، بل لأن الصمت صار ضربا من التواطؤ مع جرائم يتم تنفيذها مع سبق الى إصرار والترصّد.
معذرة. لن نقبل بجرّنا إل المسلخ صامتين!