story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

وخز غزة

ص ص

أتردد منذ أيام في الكتابة من جديد عن مأساة غزة. ماذا عساي أقول؟ وفيم تسعف الكلمات ونحن أمام فرجة لم يسبق لها مثيل في التاريخ القريب والسحيق للبشرية، نشهد فيها على شي أجساد الأطفال وتجويع النساء وقهر الرجال؟ ماذا عساها تضيف الكلمات أمام هول الصور واللقطات والصرخات؟
لكن علينا أن نكتب ونتكلم ونصرخ رغم هذا اليأس الجاثم على النفوس والعجز المستبد بالأوصال. علينا أن نتحدث علنا نُسمع حيا أو ميتا، أو نتخلص من وزر الاستسلام أمام الوحشية والتواطؤ مع المذبحة، أو ننال بعضا من التطهير الروحي على الأقل.
هناك أشياء كثيرة تحملنا على السعادة والفخر بما نعاصره من تطور تقني وتكنولوجي وبيولوجي حققته أسرتنا الإنسانية، لكن ما نعاينه اليوم في غزة من قتل متنوع الألوان، يجعلنا نندم على اليوم الذي قطعت فيه نطف أجدادنا مسارها نحو الاكتمال والولادة والبقاء حتى تتدنس عيوننا بأشلاء الأبرياء دون أن نقوى على الحراك.
حسرتنا وألمنا مضاعفان كمغاربة. مضاعفان أكثر من مرة، لآننا لا نشترك مع ضحايا المحرقة الجديدة في الانتماء الإنساني، بل نتقاسم معهم الانتماء الحضاري والديني والثقافي، بل هناك شعور عميق بأنهم لا يقتّلون ويعذّبون إلا لأنهم منا. يقتلوننا فيهم ويعذبوننا معهم ويقهروننا بقهرهم.
حسرتنا مضاعفة أيضا لأننا حوصرنا كمغاربة في زاوية نتنة الرائحة، نُحشر فيها غير بعيد عن مقتّلي الأطفال وقاهري الأمهات. ولأن هجمة طوفان الأقصى البطولية لم تأت بكل تلك الشحنة اليائسة والمستعدة للعدوان والإبادة الحتميين بعدها، إلا وقد التحقنا بركب “المطبعين” الواقفين في طابور المتسولين لعطف المجرمين وعطائهم.
قضيت جزءا من نهاية الأسبوع الماضي أقلّب أوراق الملف الجديد الذي رفعت عنه السرية لدى محكمة العدل الدولية، ملف طلب رأي استشاري قدمته الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أكثر من عام، وخرجت حكومتنا تخبرنا أنها بعثت سفيرنا في لاهاي لحضور جلسات الاستماع الخاصة به، التي انطلقت في 19 من فبراير الجاري، بينما كل الوكالات والقنوات العالمية تتناقل لائحة الدول المشاركة في هذه الجلسات دون أن يكون المغرب ضمنها.
شعرت في لغة الإعلان الرسمي عن هذا “الحضور”، وفي المسارعة لاستصدار تصريحات سياسيين فلسطينيين تشيد به، شعورا ما بالذنب أو التقصير، ومحاولة للتطهير المعنوي من غياب حضر أكثر من سفيرنا.
تتبعت خيوط القضية من بدايتها حتى جلساتها التي تناوب فيها على الحديث أكثر من 50 دولة وكيانا دوليا، فلم أعثر سوى على أربع صفحات يتيمات، ذكرنني بأيتام غزة الذين فقدوا ذويهم تحت الأنقاض والقنابل. صفيحات لا تستطيع أن تلتقط منهن أكثر من فقرة جاءت على سبيل “حسن التخلص”، معبرة عن “أمل” في إنهاء احتلال هول أصل كل اليؤوس، وفي ميلاد دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية…
صفيحات رومنسيات كتبت قبل نهاية يوليوز 2023، أي قبل طوفان الأقصى وقبل حرب التقتيل والإبادة، لكن دبلوماسيتنا لم تجد داعيا لتحيينا ولا “مؤازرتها” بما يتناسب وهول المجزرة التي تجري أمام أعيننا.
لماذا اختار المغرب أن يحصر مشاركته في هذه المسطرة الأممية في “مرافعة” كتابية أخشى أنها ستشهد علينا من حيث أرادها البعض شهادة لنا؟
الحقيقة أنني لم أجد جوابا ولا مبررا مقنعا. مسطرة التعقيب على الإفادات الكتابية ظلت مفتوحة ومتاحة حتى نهاية أكتوبر، أي بعد انطلاق العدوان على غزة، والمحكمة لم تحدد موعد انطلاق جلسات الاستماع إلا وأطنان الخلطات الكيماوية الحارقة المهداة من غرب “الأنوار” تنهال فوق رؤوس المدنيين والعزل، فلماذا اخترنا لبلدنا هذا الدور الهامشي في جلسات نحن أكثر من يدرك قيمتها الرمزية والمعنوية، لأننا مررنا بها، مررنا عبرها للحصول على رأي استشاري من المحكمة نفسها قبل أن ننطلق بالمصاحف والأعلام لتحرير نصف ترابنا.
تجولت نزولا وصعودا في صفحات الملف كما يتيحه الموقع الرسمي لمحكمة العدل الدولية، فوجدت “الكبير والصغير شانو” قد أدلى بالمرافعات والوثائق ما يعد بمئات الصفحات. ملف المملكة الأردنية التي نعتبر أنها “تشبهنا” من حيث الاهتمام بالقدس الشريف والقضية الفلسطينية، تضمن حزمة من الوثائق. وحتى بعض الدول الجزرية النائية التي لم أسمع بها شخصيا من قبل، ترافعت كتابيا ثم شاركت شفويا، بينما اكتفى المغرب بفقرات رفع العتب.
كل هذا، إلى جانب استمرار نشاط العلاقات الرسمية مع كيان الاحتلال وقتل الأطفال، ومواصلة أتباعه وخدامه ومتسولي أعطياته بيننا تسميم الإجماع الوطني-الإنساني على رفض التطبيع مع المجزرة، يجعل ألمنا كبيرا، وحسرتنا مضاعفة، وعجزنا أفدح، ووخز غزة في ضمائرنا أعمق.