story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“والي” نيويورك الجديد

ص ص

درس جديد يأتينا من الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، وتحديدا من نيويورك، تلك المدينة التي تكاد تُدار بالأسهم والمؤشرات، والتي كانت تحتاج إلى رجل يُشغِّل فيها محركا آخر: محرك المعنى، فكان هو المسلم المتحدّر من الهجرة زهران ممداني.

لم يأت أول “والٍ” مسلم لنيويورك هذه المرة من القاعات المخملية اللامعة، بل صعد من أزقّة “أستوريا” وسلالم المترو وأبواب المنازل التي أُغلِقت في وجه الأسر بسبب عدم دفع الإيجار.

وُلد زهران ممداني بعيدا عن مانهاتن، وتحديدا في كمبالا، من سلالة تجمع بين فكر وفنّ. والده هو محمود ممداني، أحد أبرز العقول الإفريقية، وأمّه هي المخرجة ميرا نير. حملته رحلة الهجرة إلى نيويورك طفلا، فترعرع بين لغتين وذاكرتين وعالمين، قبل أن يعود إليهما سياسيا يجسر الهوّة بين الهامش والمركز.

دخل برلمان الولاية في 2020 ممثلا لحيّه، كمرشح ديمقراطي اشتراكي يَفخر بانحيازه للضعفاء، ويضع السكن والعمل والكرامة، أي أساسيات الحياة، قبل كل شيء. هناك تمرّن على سياسة ترفع صوت المهمَّشين وتذكر أسماءهم في الميكروفون العام. من قانون “السبب المُوجِب” لحماية المستأجرين من التشرّد، إلى الإسناد الصلب لاتحاد سائقي سيارات الأجرة في ملحمة الديون والاعتصام والإضراب عن الطعام حتى انتزعوا تسوية تُخفّف الكارثة عن آلاف العائلات…

كانت تلك لحظة كاشفة: السياسة ليست مجرّد “تغريدة” تحصد التصفيق؛ بل هي خبز اليوم التالي لمن نجوا بالكاد من الأمس.

لابدّ لنا ونحن نتفرّج مرة أخرى على تمرين ديمقراطي باهر، أن نتساءل كيف عبر شابٌّ مسلمٌ اشتراكي إلى قاعة كان دخولها حتى الأمس القريب محفوفا بالمحظورات؟

والجواب بسيط للغاية: لأن قواعد اللعبة تغيّرت.

الجيل الصاعد لا يستمد وعيه من صفحات الجرائد الصباحية القديمة ولا من نشرات التلفزيون المسائية؛ بل يصنع رأيه من المقاطع القصيرة، ومن رواية السيرة اليومية، ومن سياسة تُحدِّثه بلغته لا بوصاية تنتصب فوق رأسه.

هكذا أعاد ممداني تعريف الحملات من “بيع برنامج انتخابي” إلى بناء شعور بالانتماء. وجعل الحملة حركة سرد مرئيّ، تُعيد السياسة إلى وظيفتها الأولى، أي منح الاعتراف لمن يشعرون بالتجاهل والإقصاء، والاعتراف بالوجع وبالعرق وبالديانة، وبالطبقة الاجتماعية كواقع لا كوصمة.

لقد صنع ممداني الاعتراف بأن المدينة لا تكون مدينة إن لم تسع السائق السنغالي والعجوز المكسيكية وصاحب البقالة اليمني والممرضة الأوزبكية، جنبا إلى جنب. لذلك فشلت القوى التقليدية، لأن أدواتها مُصمَّمة لزمن آخر، وتقوم على أموال وفيرة تُطارِد فراغا عاطفيا وسياسيا لا يُشترى.

تقاطع هذا التحوّل الثقافي مع تراكم تنظيميّ بدأ بعد 11 سبتمبر، حيث خرجت الجالية المسلمة من خانة المراقَبين إلى خانة الفاعلين، فوُلدت كتلة جديدة لا تُدار بالهندسة الانتخابية القديمة.

ذلك بعض سرّ “الزلزال” الذي هزّ أعمدة السياسة الأميركية في عقر دارها.

لكن هذا لا يعني أن الفوز يُصنع بالعاطفة وحدها. لقد قدّم ممداني وعودا عملية. ووعد بمدينة يمكن تحمّل كلفة العيش فيها، وبتجميد الإيجارات للمُثبّتة عقودهم، وبتسريع الحافلات وجعلها مجانية تدريجيا، وبتوسيع رعاية الطفل، وبمقارعة ثقافة الفساد التي حوّلت جراح المدينة إلى فرص ربح…

هذه ليست شعارات، بل امتداد لمسار سياسيّ طويل. انطلق حين انتصر سائقو التاكسي بعد إضراب التجويع على طاولة مدينة لا ترحم، فتبيّن أن “اليسار” حين يضع أقدامه على الأرض يُنتج سياسة قابلة للتنفيذ لا قصائد ومرثيات. ذلك ما طمأن فئات وسطى مُتعبة، وما جعل الخطاب “التقدّمي” يلبس بدلة الإدارة الممكنة.

ولأن نيويورك واجهة أميركا الخارجية، فقد قرأ النظام السياسي الرسالة، وتأكّد ألا أحد يستطيع أن يخاطب هذا الجيل بلغة الأمس ويفوز.

لهذا تحديدا كانت المعركة أكبر من فكرة “يسار ضد يمين”. كانت بين سرديتين، واحدة تُخيف الناس من بعضهم، وأخرى تُعيد ترتيب المدينة حول من يخدمونها بأيديهم. واليوم تبيّن أنه حين تتفوّق الثانية، ينهار “الفيتو” الصامت للوبيّات المال والإعلام، وتُفتح نافذة إلى عصر سياسي جديد.

هنا يصبح فوز ممداني أكثر من حدث محلي، بل إنذار تغيير ودرسَ أمل.

فما الذي يعنينا نحن من كل ذلك؟

يعنينا أن السياسة، حين تُستمدّ من الناس وتُمارس لأجل الناس، تُعيد الأمل إلى المجال العمومي. وأن الأجيال الصاعدة ليست مشكلة ينبغي ترويضها، بل طاقةٌ ينبغي الإصغاء إليها. وأن الإعلام الجديد ليس بديلا عن المؤسسات، لكنه صار مصنعا ينتج “الشرعية”، ولابدّ من فهمه واستعماله بلا خوف. وأن خطاب الكرامة هو الذي يردّ الاعتبار لفكرة الدولة.

من “درب” في أستوريا إلى مبنى بلدية نيويورك، تثبت تجربة ممداني أن “المستحيل” هو أكثر الكلمات كسلا في السياسة. واللحظة المغربية تحتاج هذا النوع من الدروس. تحتاج أن تُنصت نٌخَبُنا للجيل الذي لا يقرأ افتتاحياتنا لكنه يستطيع أن يصنع غدا يُجبِرنا على قراءته.

زهران ممداني هو ثمرةُ تنظيم طويل وصبر عنيد، وسيرةُ مهاجر صنع لنفسه مكانا في الذاكرة العامة بلا إذن من حرّاس البوابات. لهذا تبدو قصته في جوهرها عبرة لنا، خلاصتها أنه إذا كان الهامش يملك الأدوات والصوت والخيال، فإنه قادرٌ على قلب الطاولة، لا نكاية بأحد، بل تأسيسا لعقد اجتماعي جديد.

وهناك، كما هنا، يبقى الرهان هو أن نحفظ للأمل لياقته، وأن نسقي السياسة بمعنى، وأن نتذكّر دائما أن الدولة لا تُقاس بناطحات سحابها، بل بارتفاع قامات أبنائها.