هل يفعلها ترامب؟
لم يشهد العالم المعاصر حديثا متكررا بشأن إعادة رسم الحدود كما يجري هذه الأيام على لسان الرئيس الأميركي المنتخب “دونالد ترامب”، سواء باتجاه الشمال نحو كندا، أو شرقا نحو غرينلاند، ناهيك عن التهديد بالسيطرة على قناة بنما. وفي الوقت الذي استبعد فيه “ترامب” اللجوء إلى أي عمل عسكري ضد كندا، معتبرا أن الضغوط التجارية ورفع الرسوم الجمركية كفيلة بتحقيق الأهداف المرجوة بضم البلد، فإنه لم يظهر ذات التحفظ عندما تعلق الأمر بغرينلاند التي لم يخف إمكانية اتخاذ خطوات عسكرية اتجاهها لتحقيق طموحاته. أما فيما يتعلق بقناة بنما، التي كانت خاضعة للإدارة الأمريكية منذ تشييدها وانتقلت سيادتها إلى بنما عام 1999 بموجب الاتفاقية المبرمة بين الرئيس الأمريكي جيمي كارتر والحكومة البنمية عام 1977، فيأتي التهديد في سياق مخاوف “ترامب” المزعومة من تزايد النفوذ الصيني في القناة، لا سيما مع مراقبة الصين لحركة مرور السفن عبر هذا الممر البحري الحيوي، ما يعكس تصاعد التوترات بين القوتين بشأن المواقع الاستراتيجية العالمية.
خلال ولايته السابقة، أثار “ترامب” جدلا واسعا بعرضه شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك سنة 2019، وهو عرض قوبل بالرفض والسخرية في الأوساط الدولية. إلا أن هذا الاقتراح لم يكن مجرد فكرة عشوائية أو ضربا من الخيال السياسي، بل يعكس رؤية استراتيجية بعيدة المدى تسعى لمواجهة التحديات الجيوسياسية المتنامية في المنطقة القطبية الشمالية التي باتت مسرحا لصراع نفوذ بين القوى الكبرى، مع تزايد الحضور الروسي بشكل غير مسبوق، سواء من خلال تعزيز قدراتها العسكرية أو توسيع نطاق نفوذها الاقتصادي في المنطقة. في الوقت ذاته، كثفت الصين هي الأخرى من وجودها عبر استثمارات ضخمة في البنية التحتية والمشروعات الطاقية، مما أثار قلق واشنطن من تحول القطب الشمالي إلى نقطة ارتكاز جديدة للتنافس العالمي. ومع ذوبان الثلوج نتيجة التغيرات المناخية المتسارعة، أضحت الموارد الطبيعية أكثر سهولة للوصول والاستغلال والتي تشمل احتياطيات هائلة من النفط والغاز والمعادن النادرة، التي تعد عناصر أساسية في الاقتصاد العالمي الحديث. إلى جانب ذلك، يفتح ذوبان الجليد طرقا بحرية جديدة يمكن أن تعيد تشكيل خريطة التجارة الدولية، مما يجعل غرينلاند موقعا استراتيجيا لا غنى عنه.
لهذا السبب، يرى “ترامب” أن تعزيز الحضور الأمريكي في غرينلاند لم يعد مجرد خيار سياسي، بل ضرورة حتمية للحفاظ على المصالح الأمريكية وحمايتها من التهديدات المتزايدة، سواء من روسيا أو الصين، في منطقة تزداد يوما بعد يوم أهمية على الساحة العالمية. ففي خطوة مفاجئة أضافت مزيدا من التعقيد إلى المشهد السياسي، أعلن الملياردير الأمريكي “إيلون ماسك” دعمه العلني لخطط “ترامب” المتعلقة بغرينلاند، مؤكدا أن الجزيرة تمثل موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية للولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي. “ماسك”، المعروف بتطلعاته العالمية ورؤيته المستقبلية، شدد على أن غرينلاند قد تكون بوابة الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في القطب الشمالي، سواء من خلال استغلال مواردها الطبيعية الهائلة الضرورية لتكنولوجيا المستقبل أو السيطرة على المسارات البحرية الجديدة الناتجة عن ذوبان الجليد.
تصريحات “ماسك” الداعمة لرؤية “ترامب”أثارت اهتمام المراقبين الدوليين، خاصة مع توقيته الذي تزامن مع خطوة غير متوقعة أخرى من “ترامب”، تمثلت في إرسال نجله الأكبر، “دونالد ترامب جونيور” إلى غرينلاند في 7 يناير الجاري. زيارة الابن، التي لم يتم الإعلان عنها مسبقا، أثارت الكثير من التكهنات حول طبيعتها وأهدافها، حيث رجحت مصادر مطلعة أنها جاءت في إطار استكشاف فرص التعاون الاقتصادي واستطلاع الرأي المحلي بشأن الخطط الأمريكية. وبالتالي يرى البعض أن هذه الخطوات ليست عشوائية، بل جزء من استراتيجية محسوبة تهدف إلى تعزيز التأثير الأمريكي في الجزيرة، سواء عبر مبادرات اقتصادية تستقطب السكان المحليين أو خطوات دبلوماسية تضع مزيدا من الضغط على الدنمارك، التي ترفض حتى الآن أي نقاش حول إمكانية بيع غرينلاند. هذه التطورات تشير إلى تصعيد محتمل في الاهتمام الأمريكي بغرينلاند، مما قد يعيد فتح النقاش الدولي حول مستقبل الجزيرة ومكانتها في التوازنات الجيوسياسية العالمية.
يبدو أن الطريق نحو تصعيد التوترات الدولية بات مفتوحا على مصراعيه، خاصة في ظل التصريحات المتكررة والمتزايدة حدة من “ترامب”. وإذا كانت هذه التصريحات قد بدت في البداية استفزازية وتثير التساؤلات بشأن جديتها، فإن تكرارها، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة من العلاقات الدولية، جعل العديد من الدول ترى فيها فرضية يجب التعامل معها بجدية واهتمام كبيرين. فالمثير للقلق في هذه التصريحات أنها لم تستهدف دولا تُعتبر خصوما تقليديين أو مناوئين للولايات المتحدة، بل طالت حلفاء تاريخيين وشركاء استراتيجيين في أوروبا. هذا التوجه غير المسبوق دفع وزير الخارجية الفرنسي إلى التحذير من أن العالم قد دخل مرحلة جديدة أشبه بعصر “البقاء للأقوى”، حيث لم تعد العلاقات التقليدية والقواعد الدبلوماسية تضمن الاستقرار العالمي. في المقابل، لم تخفِ ألمانيا استياءها من تصريحات “ترامب”، معتبرة أنها تعكس توجها أحاديا يهدد الشراكات التي قامت عليها أسس الأمن الأوروبي-الأطلسي لعقود.
لم يتوقف الأمر عند هذه التصريحات فقط، بل امتد إلى تحذيرات واضحة ومباشرة من مواجهة محتملة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، خاصة إذا استمرت الأخيرة في الضغط من أجل فرض سياسات تتعارض مع مصالح أوروبا. الجديد فيها هو رسالة “ترامب” الموجهة بشكل خاص إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تضمنت مطلبا برفع ميزانية الدفاع إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء. هذا الطلب يهدف، وفقا لترامب، إلى تمكين الولايات المتحدة من تقديم الحماية العسكرية اللازمة لأوروبا وكندا، لكنه في الوقت ذاته يضع أوروبا أمام معضلة معقدة: إما زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل غير مسبوق، أو مواجهة احتمالية تقلص الالتزام الأمريكي بأمن القارة. تصريحات اعتبرها البعض انعكاس جذري في طبيعة العلاقات بين واشنطن وحلفائها، وتحمل في طياتها رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في هذه العلاقات عبئا تتحمله، بل مسؤولية يجب أن يتحملها الجميع بالتساوي. ومع تصاعد اللهجة الأمريكية، يبدو أن الاتحاد الأوروبي بات أمام خيارين صعبين: إما الرضوخ للمطالب الأمريكية، أو السعي لبناء منظومة دفاعية مستقلة تعزز من قدراته بعيدا عن الهيمنة الأمريكية، وهو ما قد يعيد تشكيل موازين القوى العالمية ويعمق الانقسام بين ضفتي الأطلسي.
وبالرغم من محاولة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا تعزيز مصداقيته في إدانة قرار موسكو بضم أراض أوكرانية، في محاولة لإظهار التزامه بالمبادئ الدولية الرافضة لتغيير الحدود بالقوة. إلا أن رؤية “ترامب” لهذه الخطوة تختلف تماما؛ فهو يعتبرها جهدا متأخرا لإحياء نظام دولي استنفد أغراضه. فتكرار حديثه عن حل لأزمة أوكرانيا يكشف عن توجه يتجاوز الحاضر، إلى رؤية تذكر بفترة ما قبل تأسيس الأمم المتحدة، عندما كانت القوى الكبرى تتقاسم مناطق النفوذ وترسم حدود الدول دون اعتبار للقوانين الدولية أو المبادئ الأخلاقية. وفي هذا السياق، أصبح تغيير الحدود ميزة مقلقة لعصر مليء بالمخاطر، حيث تمتد هذه الظاهرة من قضية تايوان والصراع حولها، إلى ضم روسيا أراضي أوكرانية، مرورا بمخططات “ترامب” التوسعية والدعوات لتوسيع مساحة إسرائيل. والأخطر من ذلك هو الصمت الدولي المريب، خاصة من جانب القوى الكبرى كالصين وروسيا، مما يثير احتمالية وجود “تواطؤ متبادل” بين هذه الدول، ربما لتجنب مواجهات مباشرة قد تفضي إلى صراعات شاملة. هذا التواطؤ، إن وجد، يذكر بفصول من التاريخ الحديث عندما تغاضت القوى العظمى عن انتهاكات بعضها البعض للحفاظ على توازن غير مستقر.
هذا الواقع يعكس انتهاكا صريحا للأعراف الدبلوماسية والقانون الدولي، حيث تبدو القوى الكبرى مستعدة لانتهاك سيادة الدول الصغيرة دون اكتراث لأي رقابة أو التزام بالقوانين الدولية، مما قد يشجع دولا أخرى على سلوك نفس النهج. في ظل هذه الظروف، يبرز تساؤل جوهري حول مستقبل النظريات التي بُني عليها السلام العالمي الحديث، مثل “نظرية السلام الديمقراطي” التي صاغها “بريجنسكي”، المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي، والتي تفترض أن الدول الديمقراطية نادرا ما تخوض حروبا ضد بعضها البعض. ونظرية “القوس الذهبي للسلام” التي طرحها “توماس فريدمان”، والتي تفترض أن الترابط الاقتصادي بين الدول يسهم في تجنب الحروب وتحقيق الاستقرار، تواجه تحديات كبرى. فبينما تشير النظرية إلى أن الدول التي تمتلك سلاسل مطاعم ماكدونالدز تميل لتجنب النزاعات المسلحة فيما بينها، أقر فريدمان نفسه بأن هذه ليست قاعدة حتمية، بل ملاحظة ظرفية يمكن أن تستثنيها المصالح القومية والتوترات الأيديولوجية، كما حدث في صراعات بين دول تربطها علاقات اقتصادية قوية. هذا السياق الدولي الجديد يطرح تساؤلات عميقة حول مدى قدرة النظام العالمي الحالي على الصمود أمام موجة جديدة من السياسات الأحادية والانتهاكات الصارخة للقانون الدولي، مما يجعل العالم أقرب إلى حالة من الفوضى الجيوسياسية التي تهدد بنهاية افتراضات السلام التي سادت لعقود.