هل تخشى الإنسانيات ذكاء الآلة؟
هل ما تزال هناك حاجة إلى المفكر والباحث والخبير أمام هذا التطور الهائل والمتسارع في الذكاء الصناعي؟ هل ما يزال القارئ والطالب- والمتلقي عموما- في حاجة إلى من يفكر ويتخيل، ويبدع ويكتب، ويصنع عوالم القراءة والإمتاع والمؤانسة، ويخلق دوائر النقد والتحليل والجدل؟ أم أن أشكال التفكير والبحث، وحتى الإبداع، هذه الأشكال التقليدية التي يعرفها الإنسان منذ اختراع الأبجدية إلى اليوم، باتت في مهب ريح الخوارزميات والبرمجيات الرقمية التي تهب اليوم بعتو جبار؟
بصرف النظر عن النقاش الإعلامي المتمحور حول إيجابيات الذكاء الصناعي أو سلبياته، يستدعي السؤال الوارد في عنوان هذه المقالة الانتباه إلى خطورة هذا المكون الرقمي الجديد، خاصة في ما يتصل بالبحوث والدراسات الأكاديمية في حقل الإنسانيات. وتكمن خطورته في الانتقال بمراحل البحث والدراسة من التراكم المعرفي المتدرج إلى ‘المنجز’ السريع والغزير. يتميز التراكم المعرفي، كما يعلم الجميع، بطول النفس الذي يخلق باحثين متمرسين وأبحاثا ودراسات عميقة وجيدة. في حين، يبدو أن الذكاء الصناعي يفقد الطالب والباحث هذه الميزة، ويقود إلى ‘إنتاج’ منفلت من شروط البحث العلمي، وغير خاضع لسيرورة الإشكالية، بما تقتضيه من أسئلة وفرضيات وأجوبة واستنتاجات، ومن تمحيص وتدقيق ومقارنة، الخ.
ولأن البحث العلمي، خاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، يرتبط أساسا بتوظيف القدرات العقلية البشرية، يتحول الذكاء الصناعي إلى طامة كبرى، كونه يعمل على أتمتة هذه القدرات، بل يجمدها ويلغيها حين يحل بدلا عنها في جمع البيانات وتحليل النصوص والإجابة عن الإشكاليات، الخ. أضف إلى ذلك أنه يسقط البحث في ‘سيولة’ السلعة الاستهلاكية، بتعبير عالم الاجتماع البولوني ‘زيغمونت باومان’؛ أي أنه يحوله من مجال الإنتاج المرتبط بالتفكير العقلاني الممتد في الزمن إلى مجال محكوم بالاستهلاك العابر والزائل. هكذا، تصير الكتب والدراسات مجرد ‘موضة’ تحيا مدة قصيرة، قبل أن تضمحل وتتلاشى.
لنأخذ حقل الترجمة، على سبيل المثال. لقد اعتدنا أن نسمع هذه الجملة التي تقول إن كل ترجمة ليست دقيقة، مهما بلغ المترجم من الحذق والبراعة. لكن ما الذي يمكن أن نقوله عن الترجمة الآلية؟ هل يمكن أن تكون دقيقة، وأن تتحدى ترجمة الإنسان؟ تفيد ملاحظة الترجمة الآلية، التي تنجزها محركات البحث المختلفة أو البرمجيات الإلكترونية الخاصة، أنها سريعة، لكنها تفتقر إلى الدقة التامة. بل إن دقتها أقل بكثير مما ينجزه العقل البشري. يعود سبب ذلك إلى عدم إلمام هذه المحركات والبرمجيات كلها بالأبعاد الثقافية التي تتسم بها النصوص، وإلى عجزها عن إيجاد مدلولات الكلمات ومعانيها حسب سياقاتها في هذه النصوص. وغالبا ما تسيء تفسير الصور البلاغية وتأويلها.
وبما أن الذكاء الصناعي أخذ يطرح تحديات معقدة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، سارعت العديد من المؤسسات الأكاديمية العالمية إلى مناقشته والإحاطة به. ومما يلفت الانتباه أن تكنولوجيات الذكاء الصناعي قد تلعب دورا مساعدا في مسارات التعليم، كما يقول بعض أنصارها، لكنها تطرح انشغالات أخلاقية، ترتبط من جهة أولى بإضعاف الجهد النظري والفكري الذي يبذله الباحثون والدارسون في إنتاج أبحاثهم ودراساتهم؛ ومن جهة، ثانية بالسرقات الأدبية ومستويات دقة الأفكار والمعلومات المقدمة في هذه الأبحاث والدراسات. والنموذج البارز هو مجال الترجمة، كما سبق القول.
وأخيرا، لا بد أن نتساءل: هل يستطيع الذكاء الصناعي أن يعكس تلك القيم العلمية والثقافية والأخلاقية التي يسعى الباحثون إلى أن تنعكس عبر أبحاثهم ودراساتهم؟ وهل يستطيع كذلك أن يُضَمِّن المكتوبَ ذلك الوعي الذي يسعى الباحث إلى تبليغه إلى المتلقين؟ وهل يستطيع أن ينتج المعرفة النقدية والنظرية، البعيدة كل البعد عن المعرفة الإحصائية، التي يبدو أن الذكاء الصناعي يتقنها أكثر من خبرائها أنفسهم؟ ستبقى هذه الأسئلة معلقة حتى يعلن الذكاء الصناعي تفوقه بصورة نهائية، أو يبوء بفشل ذريع أمام العقل البشري.