هزّنا الما وضربنا الضو!
ناقوس خطر جديد سُمع صوته قويا الأسبوع الماضي، عندما وجّه صندوق النقد الدولي، واحد من نقط التوجيه للسياسات والاختيارات التدبيرية، دعوة علنية للسلطات المغربية، من أجل الإسراع بتحرير سوق الكهرباء، تزامنا مع مصادقة الصندوق على الترتيب الجديد الخاص ببرنامج “تسهيل الصلابة والاستدامة” (RSF)، وإفراجه بالتالي على حوالي 415 مليون دولار لفائدة المغرب.
هذا البرنامج يتضمن ست مرتكزات أساسية، على رأسها التصدي لندرة المياه وتحرير سوق الكهرباء وتعزيز النجاعة الطاقية… ويقدّمه صندوق النقد الدولي كآلية لمساعدة الدول على التقليل من كلفة التغيرات المناخية، وتحفيزها على إيجاد مصادر تمويل جديدة، لتحقيق الانتقال الطاقي.
تحرير سوق الكهرباء يعني من بين ما يعنيه، فتح الباب أمام الرأسمال الخاص للمساهمة في الإنتاج، لكنه يعني أيضا تقليص أو حذف الدعم الذي تقدّمه الدولة حاليا، ومنذ عشر سنوات على الأقل، لمنع تقلّبات الأسعار في الأسواق العالمية من التأثير في سعر البيع النهائي.
تتحدّث الحكومة عن غلاف مالي لا يقل عن أربعة ملايير من الدراهم تقدّمها الدولة سنويا كدعم لتحمّل الفارق بين كلفة الإنتاج وسعر البيع النهائي.
وتقدّم الحكومة مثالا يجسّد حجم ما تتحمّله مالية الدولة، يقول إن كل فاتورة بقيمة 175 درهما، لا يدفع منها المواطن سوى 100 درهم، بينما تتحمّل الدولة 75 درهما المتبقّية. أي أن سعر الكهرباء قد يتضاعف في حال التحرير الكامل للسوق وسحب الدعم الذي تقدمه الدولة.
وإذا كان إنتاج الكهرباء ما زال شبه محتكر من طرف المكتب الوطني للماء والكهرباء، رغم المستجدات التشريعية التي سمحت بدخول الخواص على خطّ الإنتاج، فإن خطوة كبيرة في طريق التحرير الكامل لمجال توزيع مادتي الماء الكهرباء قد تمّت بالفعل، بعد صدور قانون الشركات الجهوية متعددة الخدمات، ودخوله حيّز التنفيذ.
هذا القانون الذي ينتظر خطوات تنفيذه، من نصوص تنظيمية وقرارات، يفكّك القسم الأكبر من البنية العمومية القائمة حاليا، والتي تشرف على خدمة توزيع مادتي الماء والكهرباء، حيث ينص على إحداث شركات جهوية، يمكن للدولة أن تكون مساهمة فيها، لكن حصة الرأسمال الخاص يمكن تصل إلى غاية 90 في المئة.
وإذا كانت هذه الشركات ستعمل في إطار عقود للتدبير المفوض مع الجماعات المحلية الموجودة في كل جهة من الجهات ال12، فإن تفاصيل هذا القانون تجعلنا أمام خوصصة مقنّعة، مع الالتفاف على مالية هذه الجماعات الترابية، عبر إلزامها بتعويض المكتب الوطني للماء والكهرباء عن كل العقارات والتجهيزات التي يحوزها داخل مجالها الترابي، ثم وضعها رهن إشارة الشركات الجهوية التي ستكون مدعوّة لقطف ثمار “باردة” لهذا التحوّل… (سعداتهم).
هكذا، ودون استباق ما ستعرفه أسعار بيع مادتي الماء والكهرباء من تغيير، وما إن كانت الدولة ستواصل دعمها أم لا، وإمكانية اعتماد أسعار مختلفة من جهة إلى أخرى، فإن الدولة ستحلّ جزءا من مشكلة المكتب الوطني للماء والكهرباء من خلال تخليصه من أعباء خدمة التوزيع التي يقوم بها في كثير من جهات المغرب، وضخ تعويضات مالية من ميزانيات الجماعات الترابية، كمقابل ل”تفويت” العقارات والتجهيزات التي يحوزها المكتب.
هذا هو الحل “السحري” الذي اهتدت إليه الدولة، ومن ورائها المؤسسات المالية الدولية، بعدما تجاوزت ديون المكتب الوطني للكهرباء المئة مليار درهم حسب تقرير حديث لمجلس المنافسة، أكثر من ثلثها هو عبارة عن متأخرات تجاه نظام معاشات مستخدمي المكتب. أي أن مؤسسة حيوية بل وسيادية، توجد في حالة أسوأ من الإفلاس، والسبيل الوحيد لمنع انهيارها هو تمكينها من ملايير المال العام، ثم “حلب” الجماعات الترابية التي باتت مرغمة على شراء عقارات وتجهيزات المكتب.
وإذا كان تنزيل هذا المشروع قد أثار حراكا اجتماعيا غير مسبوق في مدينة فكيك، بسبب رفض الساكنة المحلية قرار المجلس الجماعي بتفويض تدبير القطاع للشركة الجهوية، فإن القادم قد يكون أسوأ، مع صدور دعوات هي أقرب إلي التعليمات، من مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي بتحرير سوق الكهرباء، ثم عندما ستشرع محطات تحلية مياه البحر في ضخ مياهها في الشبكات العمومية، وهي المياه التي ستكون كلفتها أكبر، دون شك، من كلفة المياه التي يتم الحصول عليها من السدود والمصادر الجوفية.
لا شك أن من غير المعقول، في سياق يتسم بحرية السوق والمنافسة، أن يستمر المستهلك، سواء كان أسرة أو وحدة إنتاجية، في استهلاك الماء والكهرباء بسعر غير مطابق لكلفة الإنتاج. لكن هذا الواقع القائم حاليا، لا يعني سخاء وكرم الدولة تجاه المجتمع. بقدر ما يعني إخفاء واحد من مظاهر الفشل في الرفع من القدرة الشرائية وتحسين حصة الفرد السنوية من الناتج الوطني الإجمالي، واستمرار تعميق الهوة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيء.
والطريقة التي يتم بها تنزيل هذه “الإصلاحات”، والتي سيتم تمريرها بعد “دهنها” بفتات الدعم الاجتماعي المباشر، ستجعل الطبقة المتوسطة وحدها تتحمّل كلفة التحرير الجاري تنزيله بدون حد أدنى من ضمانات الشفافية والمنافسة الحرة. أي أننا مقبلون على تقهقر جديد لمستوى معيشة هذه الطبقة، بالرغم من المسكّنات التي قدّمت لها في شكل زيادات في الأجور وتخفيض في الضريبة على الدخل. وبالتالي ستزداد الهوة الفاصلة بين الأغنياء جدا والفقراء اتساعا.
خلاصة القول إننا “هزّنا الما وضربنا الضو!”.