story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

هزّنا الما

ص ص

وددت لو أمكنني التطفل من جديد على موضوع كرة القدم ومواكبة الاهتمام الجماعي بأطوار كأس إفريقيا وما يصنعه المنتخب الوطني فيها من مشاعر قوية وتحريكه للشارع بعد كل مباراة بالفرح والاحتفال، لكن تطورات الأوضاع المرتبطة بأزمة الماء فرضت ترتيبا مختلفا للأولويات، لأن الأمر يتعلق دون أدنى مبالغة بأخطر تهديد وجودي نواجهه كمغاربة في العصر الحديث على الإطلاق.

قبل أن نتوقف عند بعض المعطيات والمؤشرات الجديدة التي تؤكد خطورة الوضع الحالي، لنسجل أولا تطورات إيجابية يعرفها تدبير الدولة لهذا الملف، وذلك في أعلى مستويات القرار وأكثرها حسما وفعالية، أي على مستوى المؤسسة الملكية وسلطات وزارة الداخلية.

فبعد اجتماع الديوان الملكي الذي انعقد قبل عشرة أيام، تتوالى قرارات ولاة وعمال وزارة الداخلية الرامية إلى عقلنة استعمال المياه والحرص علي استمرار التزويد بالحاجيات الأساسية، من آخر هذه التحركات تلك التي صدرت عن ولاية الدار البيضاء، وتتضمن إجراءات قاسية (لكنها ضرورية حتما)، وتمس الحمامات العمومية وسقي المساحات الخضراء وغسل السيارات…

ثم هناك تحوّل نوعي في تعاطي الدولة مع هذا الملف، وقفت عليه ولمسته شخصيا من خلال عدة مؤشرات، وذلك عبر رفع الغطاء، جزئيا، عن العلبة السوداء للمعطيات والمعلومات المتعلقة بالوضع المائي، في توجه يبدو أنه نتج عن جلسة العمل الأخيرة التي جرت في الديوان الملكي، وتبعها تدفق غير مسبوق للمعطيات الدقيقة والمحينة، التي تؤكد خطورة الوضع من جهة، لكنها تفتح الباب أمام بناء الثقة وتحقيق تعبئة جماعية لمواجهة الأزمة من جهة أخرى.

يكفي أن مسؤولين عموميين كبار، حضروا قبل أيام قليلة إلى بلاطوهات القنوات العمومية، وتحدثوا وفقا لمعطيات وأرقام غير دقيقة ولا محينة بل يعود بعضها إلى ما قبل العام 2006. اليوم وعبر قنوات مختلفة، على رأسها خرجات وزير الماء، نزار بركة، باتت بين أيدينا معطيات محينة تنسّب وتصحح بعض المعطيات والتقديرات المتداولة، لكنها تؤكد في النهاية خطورة الوضع وارتباط الخلل بشكل كبير بالسياسات الفلاحية والسقوية المتبعة.

تعالوا نطل على المعطيات التي أعلنها الوزير يوم أمس في ضيافة لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والبيئة: كل ما نتوفر عليه من مخزون مائي في سدود المملكة حاليا هو ثلاثة ملايير و740 مليون متر مكعب، أي بالكاد ما يكفي لتزويد المغاربة بماء الشرب لسنتين أو ثلاث، دون توجيه أية قطرة سواء للفلاحة أو الصناعة.

أخطر ما يكشفه عرض الوزير هو معدل الواردات السنوية من المياه في السنوات الخمس الأخيرة، والذي لا يتعدى الخمسة ملايير متر مكعب من الماء، أي حسابيا ووفقا لمصدر متخصص في هذا المجال، نحن في وضعية مماثلة لأكثر المناطق جفافا في العالم، بما يقل عن 150 متر مكعب من الماء لكل مغربي في السنة، في الوقت الذي تواصل فيه المعطيات الرسمية، الوطنية والدولية، الحديث عن أكثر من 650 متر مكعب كحصة فردية من الماء، وتعتبر ذلك مؤشر إجهاد مائي وجفاف… أي أننا وبكل بمعنى الكلمة: هزنا الما !

في ظل هذا القحط تم الضغط في السنوات القليلة الماضية على المياه الجوفية، والتي نضخ أكثر من مليار متر مكعب منها سنويا، في وقت تغيب فيه الأمطار والثلوج التي يفترض أن تغذي هذه الفرشات المائية وتجدد مخزونها. هكذا تخبرنا معطيات الوزير بركة الجديدة أن هذه الفرشات انخفضت في عام واحد، أي بين 2022 و2023، بما بين متر ونصف المتر في اشتوكة وخمسة أمتار في تادلة.

ورغم الأولوية المعلنة رسميا لمياه الشرب، ولجوء الدولة إلى تحلية مياه البحر وضخ المزيد من المياه الجوفية، فإن السقي الفلاحي ما زال يحصل على كميات أكبر من الماء، بما يقارب المليار و400 مليون متر مكعب استهلكت في هذه الأنشطة خلال سنة 2023، مقابل أقل من مليار متر مكعب التي استهلكت لتوفير الماء الشروب.

هناك جهود جبارة ومطمئنة تقوم بها الدولة حاليا عبر المخطط الاستعجالي، واللحظة الراهنة هي لحظة إنقاذ وتجنب للأسوأ، وفعالية هذه الجهود تظهر على الأرض رغم قسوة بعض القرارات. وأهم ما يحدث على الإطلاق، هو هذا التوجه الجديد والواضح نحو قدر من الشفافية في موضوع ظل يدبر في الخفاء وبكثير من الغموض.

لكن، ودون أن تكون في الأمر أية انتهازية أو استهداف لأي كان، فإن ما تفتح المعطيات الرسمية أعيننا عليه اليوم، يؤكد، إن لم يعزز أكثر، ما كنا نردده قبل لحظة المكاشفة هذه: هناك سياسات وقرارات ومصالح فئوية استنزفت مياهنا وجعلت الظرفية المناخية الحالية أكثر قسوة وأخطر وقعا.

هناك حاجة ملحة، ونحن على أبواب أنشطة احتفالية بمرور عشرين سنة على إحداث هيئة الانصاف والمصالحة، إلى تجربة مماثلة في مجال الماء. وكما قلت سابقا: التجاوزات الحقوقية لسنوات الرصاص ليست أخطر من التجاوزات التي حصلت في مجال الماء.

فبينما نعمل على إنقاذ الوضع بيد، لابد لنا من تحريك اليد الأخرى لاستكمال التشخيص وترتيب المسؤوليات: لماذا لم توقع اتفاقيات الفرشات المائية الخاصة بأغلب الأحواض بعدما تقرر ذلك منذ أكثر من عقد من الزمن؟ من الذي عرقل ذلك ولمصلحة من؟ وكيف تم تنزيل الاختيارات الفلاحية المرتبطة بالزراعات المستهلك للماء؟ هل المناطق التي أقيمت فيها الأحواض السقوية كانت فعلا تتطلب وتستحق ذلك؟ ومن المسؤول عن استمرار التبذير وضياع كميات هائلة من المياه رغم برامج التجهيز بالتنقيط وغير التنقيط؟ ثم من المسؤول الفعلي عن تأخر إنجاز بعض المشاريع والتجهيزات المائية الكبرى مثل بعض السدود ومحطات تحلية المياه؟ هل هم المسؤولون الحكوميون السابقون؟ فلنحاسبهم ونحاكمهم إذن؟ أم أن هناك من تلاعب بالمصالح العليا للبلاد وعمد إلى عرقلة تلك المشاريع ومنع إقامتها كي لا تحتسب ضمن حيلة تلك الحكومات؟ فلنحاسبه ونحاكمه إذن.