نحتاج إلى المزيد من الكلام

خلال السنوات الأخيرة، شهدت صناعة الصحافة والنشر في المغرب تحولًا كبيرًا، حيث لم يعد التفاعل مع الجمهور مقتصرًا على الوسائل التقليدية مثل الصحف والمجلات، فبدخول الإنترنت والوسائط الرقمية، أصبح التواصل الرقمي هو الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الصحفيون في نقل الأخبار والمعلومات، وبرزت العديد من الأسئلة حول تأثير هذه التغيرات على أساليب إنتاج وتوزيع المحتوى الإعلامي، وأهل الصحافة والإعلام أدرى بهذه التحولات.
التواصل الرقمي في الصحافة لا يعني فقط استخدام الإنترنت لنشر الأخبار، بل يتعداه إلى كيفية ممارسة الصحفي لنشاطه على الإنترنت، وكيفية تفاعل الجمهور مع هذا المحتوى، وأيضًا كيف انتشر على منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم المكان الذي يُنتج فيه الخبر، حيث يتبادل الجمهور آراءه ويعطيه وزنه وأهميته، مواقع مثل “فيسبوك”، “تويتر”، “إنستغرام”، وحتى “تيك توك” أصبحت منصات رئيسية لبث الأخبار بشكل لحظي، ما أحدث ثورة حقيقية في كيفية وصول المعلومات إلى الجمهور المغربي.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل يعني هذا التحول الرقمي أن الصحافة التقليدية قد فقدت دورها في المغرب، أم أن هناك تكاملًا بين الصحافة التقليدية والرقمية يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للإعلام؟ في وقت تعاني فيه بعض الصحف والمجلات من أزمة انخفاض التوزيع التقليدي، (سؤال لست متخصصًا ولا أهلاً للإجابة عنه)، لكن ما لا يمكن إغفاله هو أن الصحافة الرقمية قد أصبحت تفتح أبوابًا جديدة للجمهور، بفضل تفاعلاتهم المباشرة مع المحتوى، وتوفر الأخبار على مدار الساعة، مما يسهم في توسيع دائرة تأثير الإعلام في المجتمع.
علاوة على ذلك، لم تقتصر آثار الرقمنة على جمهور الصحافة فقط، بل أصبح لها تأثير كبير على الدور الذي قد يلعبه المثقف والأكاديمي والباحث، الصحفي اليوم ليس فقط ناقلًا للمعلومات او الخبر، بل هو أيضًا مبدع للمحتوى الذي قد يشاركه فيه غير الصحفي (وفقًا للتعريف القانوني والمهني)، حيث يقوم الصحفي بتحليل الأحداث، والتفاعل مع الجمهور، وأحيانًا تصحيح أو تعديل الأخبار بناءً على تفاعل الجمهور معها، وهو ما قد تتقاسمه معه بروفيلات أخرى.
ورغم الفوائد العديدة التي جلبتها الثورة الرقمية لقطاع الصحافة في المغرب، إلا أن هناك تحديات كبيرة تلوح في الأفق، فالتفاعل السريع مع الأخبار يمكن أن يؤدي إلى انتشار معلومات غير دقيقة أو مغلوطة بسرعة، وهو ما يشكل تهديدًا مصيريًا للمصداقية الإعلامية، ومع تزايد المنافسة على منصات الإنترنت، أصبحت الضغوط كبيرة على الصحفيين لتقديم محتوى جذاب وسريع، مما قد يؤثر على دقة الأخبار و موضوعيتها، ولعل أبرز مظاهر هذه الإشكالية عايشناها خلال أحداث زلزال الحوز، ومن جديد، لست متخصصًا ولا أهلاً للحديث في أخلاقيات مهنة الصحافة.
ما جعلني استحضر الكلام أعلاه هو عملان يُقدمان في هذا الباب، ترتب عنهما تراشق افتراضي، صحيح قد لا يستحق التراشق التوقف عنده بمقال، لكن يمكن توظيف التراشق الافتراضي كمدخل للحديث في إشكاليات كبيرة، فلا دخان دون نار.
من أبرز الوجوه الصحفية التي تشتغل على أحد العملين ولهما جمهور واسع، هو الصحفي توفيق بوعشرين، الذي يقدم أشبه ما يمكن تسميته بعمود صحفي أسبوعي في شكل مصور، بعنوان “كلام في السياسة”، ولأن الكتابة والنقاش العمومي ليست حكرا على أحد أو مهنة، برزت تجربة أخرى يقدمها الأستاذ عمر الشرقاوي تحت عنوان “بالعقل والقانون”، هذا العمل الذي طالته اتهامات بتقليد العمل الأول، وهنا انطلق التراشق.
لا شك أن لكل مساهم في النقاش العمومي متابعيه، من يفضله، وربما من يكرهه، ما يجعله يدافع عن العمل الأول أو الثاني، وإن كنا لسنا بصدد “ديربي” في كرة القدم، فقبلهم وجدت تجارب وبرامج عدة.
الملاحظ أن كل من بوعشرين والشرقاوي قدما نمطًا خاصًا في التناول الإعلامي لقضايا السياسة والقانون و المجتمع، و كل منهما يقدم تحليلات انطلاقا من تجربته و خلفيته و تكوينه ، وهذا هو المكسب الحقيقي بالنسبة لنا في المغرب و للمتلقي المغربي، لأننا لسنا بصدد قاعة ستنتهي مقاعدها إن تقدم أساتذة آخرون وصحفيون بتقديم المزيد من البودكاست ، نحن بحاجة لمحتويات تفتح مزيدًا من النقاش، و لسنا في حاجة لإسكات الأصوات القليلة التي نتوفر عنها ، لنلتفت شرقًا هذه المرة، كم من البرامج الإعلامية والصحفيين والأساتذة يقدمون تجارب البودكاست في مصر مثلا ، فلنلاحظ كم هو تأثيرنا الإعلامي ضعيف مقارنة مع مصر مثلا و الاعلام اليوم سلاح فتاك.
صحيح أن تجربة البودكاست يُقال إنها ظهرت لأول مرة على يد الصحفي البريطاني بن هومر سنة 2004 في مقال نشرته له “The Guardian”، ويُقال أيضًا إن أول بودكاست في العالم هو “The Daily Source” الذي أطلقه دان لوبيان (Dave Winer) وآدم كاري (Adam Curry) في عام 2004، لكن لا ينسينا ذلك في تجربة إقليمية في هذا الباب لربما الأولى من نوعها بالمنطقة، تشبهها إلى حد كبير تجارب كل من الأستاذ توفيق بوعشرين والأستاذ عمر الشرقاوي، وهي تجربة صحفي القرن كما يلقبه كثيرون محمد حسنين هيكل، وقد يكون عميد البودكاست بالمنطقة، وإن لم يكن وقتها البث على الإنترنت، وذلك لا يعتبر شرطًا لنسمي العمل بودكاست، حيث كان برنامجه / بودكاسته بلغة اليوم، الذي يحمل عنوان “تجربة حياة”،لا يختلف في شيء من حيث الشكل (الذي اعتمد عليه الكثير في تبادل التراشق حول بودكاست بوعشرين والشرقاوي)، حيث كان يجلس محمد حسنين هيكل في مكتبه، وأمامه الكاميرا، وينطلق في الحديث والتحليل والحكي للجمهور، بشكل مباشر وهادئ.
طبعًا بجودة تصوير أقل، وجانب تقني أضعف، نظرًا لغياب ما يعرفه العالم اليوم من تطور تكنولوجي في هذا الباب لم يكن حينها.
وبعد سنوات من وفاة هيكل، يمكن العودة لعدد من حلقات برنامجه / بودكاست “تجربة حياة” اليوم، لأنها مرجع قد يساعدك على فهم ما يجري في الشرق الأوسط، وينير تحليلك للوضع في سوريا والعراق.
نحن في حاجة لكل التجارب الإعلامية والصحفية والأكاديمية، أولًا بمنطق التعددية والحرية، وأيضًا من أجل منح فرصة للأجيال القادمة للاطلاع على إرث إعلامي متعدد، يمكنهم من فهم أفضل بعد أخذ مسافة مما نعيشه اليوم، نحن في حاجة للكلام في السياسة وللكلام بالعقل والقانون، وما يجب أن نخشاه هو أن نفتقد الحديث في السياسة، وألا نستحضر العقل والقانون في كلامنا، أما عدونا المشترك جميعًا فهو الصمت، الذي ليس دائمًا من ذهب.