story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ناضل يا عزيز!

ص ص

كنت نهاية الأسبوع الماضي غارقا بين دفّتي كتاب “زمن مغربي” لفتح الله ولعلو، أتنقل بين سطور الحلم المغربي القديم. ذلك الحلم الذي صيغ بحبر الأمل ودموع الخيبات، يوم كانت السياسة فعلا شريفا، والنضال مشروع حياة، وكان للرجال أسماء تبدأ بالمهدي بنبركة وتمرّ بعبد الرحيم بوعبيد ولا تنتهي عند عمر بنجلون.

كنت أقرأ عن زمن كان فيه السياسي يحمل قضيته فوق كتفيه، لا حساباته البنكية.. زمن كانت فيه الاجتماعات السرية أخطر من الصفقات، والكلمات أغلى من الأسهم.

وبينما أنا أُقلّب إحدى صفحات الكتاب وأتخيّل مشهد زعيم شاب وسط ساحة مزدحمة يخطب في شعب جائع إلى الكرامة، فجأة اخترقت أذني أصوات غريبة، لم تأت من الكتاب، بل من شاشة هاتف غير بعيد عني.

صوت نسائي جماعي، حاد، متحمّس… يشقّ الصمت مثل سكين في رغيف طري:
“ناضل يا عزيز… ناضل يا عزيز…”.

رفعت رأسي، ظننت في البدء أنني أصغي إلى شريط ساخر أو مشهد من برنامج كاميرا خفية، لكن لا.. المشهد حقيقي تماما.

حافلة مكتظة بنساء وجوههن مشرقة بالحماس، وأفواههن تردّد الشعار بحماس لافت، متجهات إلى مهرجان خطابي لحزب التجمع الوطني للأحرار في أكادير.

تلفّتُ حولي. لم أكن في الحافلة. لكن، ما الذي حدث؟ هل أنا هنا… أم هناك؟!

أغمضت عينيّ قليلا… وفجأة، رأيت المشهد كاملا: ها هو عزيز أخنوش، في هيئة مناضل وطني كبير، يرتدي جلابية النضال وعقال التضحيات، يتقدّم الصفوف… يناضل.
نعم، يناضل!

لكن بطريقته الخاصة، التي لا تشبه نضال بنبركة ولا بوعبيد ولا عمر بنجلون.

يناضل ليحوّل حياتنا إلى حقول خضراء، ليس خُضرة الأمل (الدولار)، ولا خُضرة العدالة الاجتماعية… بل خُضرة المخطط إياه؛ ذلك المشروع العظيم الذي يجعل من كل واحد منا مشروع فلاح… ومليونير.

إذا ناضل عزيز لن نكون شعبا من العمال ولا من الموظفين… بل أمّة من الفلاحين الجدد.

فلاحون لا يزرعون ليأكلوا، بل يزرعون ليُثَمِّنوا… ثم يُصدّروا… ثم يشاهدوا إنتاجهم يغادر في الحاويات المبرّدة نحو أسواق أوروبا والخليج وأمريكا، بينما هم يُمنّون النفس بصورة مع المناضل الأعلى… عزيز، وهو يقضم من فاكهتهم ويقول: لا لا ما يمكنش،، رخيص!

إذا ناضل عزيز سيصبح كسكسُنا علامة تجارية عالمية.. لا كسكس جدّاتنا، بل نسخة مغلفة جيدا: “Mc Couscous”، يباع جنبا إلي جنب مع “رفيسة إكسبريس”. حتى ذلك الكأس المقدس، “أتاي بالنعناع”، سيُختزل في قارورة زجاجية أنيقة، تحمل توقيع “أتاي بزبلو..Made by 3aziz”.

وستُباع منتجاتنا على رفوف متاجر Whole Foods وCarrefour Bio، بسعر 19 يورو للكأس الواحد… مع نعناع عضوي معتمد، قُطِف حصريا من ضيعة مناضلنا العزيز.

أما نحن؟ سنبقى نتأمل بلا شغل، ننتظر أن تصلنا حصّتنا من التنمية.. ربما في شكل إعفاء ضريبي على قفة رمضان، أو تخفيض استثنائي على فاتورة تحلية مياه البحر، حين ينتهي نضاله المبارك بشفط آخر قطرة من مياه الوطن.

سيناضل عزيز أيضا من أجل البيئة.

نعم… بيئة نظيفة من البشر الذين لا يملكون مالًا لشراء الوقود.

سترتفع أسعار البنزين حتى يصبح سعر اللتر الواحد مساويا لسعر برميل نفط.
وسيتوقف الجميع عن قيادة السيارات…

وسنعود إلى ركوب الحمير والبغال بدل استهلاك لحومها.

سيعود روث الحيوانات ليزيّن شوارعنا ويخصّب تربتها لتنبت لنا الورود والبقولة، في انسجام تام مع أهداف التنمية المستدامة.

حين سيناضل عزيز في مجال الماء، سنستيقظ ذات صباح لنجد أن آخر قطرة مياه جوفية قد صعدت إلى فيلاته فوق التلال.

ولا مشكل… فهو سيحلّ الأزمة بمحطات تحلية مياه البحر.. حلّي باش تولّي!

“مناضلونا الصغار”، سيقول في خطاب له بعد لقاء سيجمعه صدفة مع “مول النعناع”، “لكل أسرة مغربية محطة تحلية، بالتقسيط المريح، مع دعم محدود لا يتجاوز مليارا أو اثنين من صندوق التنمية الذي أديره شخصيا.. ولا فخر”.

أما في مجال الطاقة… فسوف نناضل جميعا من أجل الضوء.

نعم، ناضل يا عزيز… حتى نعود إلى زمن المصابيح الزيتية والفوانيس.

لأن أسعار الكهرباء سترتفع حتى تصبح رؤية النور في بيتك مشروعا استثماريا يتطلب قرضا بنكيا.

أما في السياسة… فلن يقبل عزيز بغير أن يتحوّل كل المغاربة إلى مناضلين… في حزبه، طبعا.

لن يبقى حزب معارضة، ولا حزب أغلبية.. لا يسار، لا يمين..
فقط حزب المناضل الكبير.. “الحزب الأخضر” بقيادة “المناضل الكبير” عزيز.

ستصبح سياستنا عبارة عن مهرجانات، وحفلات، وأطباق بسطيلة بفواكه البحر وخدفان مشوية، وولائم على شرف كل من يؤمن بأن النضال يمكن أن يكون… مشروعا مربحا.

وبمناسبة سيرة الخرفان.. إذا ناضل عزيز، سنصبح جميعً تجار مواشي… سنّاقة أو فراقشية، حسب حجم رأس المال.

سنستورد الخرفان من البرازيل والأرجنتين، ونتركها تسبح في البحر إلى أن تُعفى من الضرائب، ثم نُدخلها إلى الأسواق لنبيعها بأثمان مضاعفة، ونقيم بعدها حفلة شواء وطنية على شرف الربح السهل.

هكذا هو النضال العصري… مربح، نظيف، ومستدام.
مع المناضل عزيز… لا داعي أصلا للحديث عن مشكلة حرية الصحافة.
فالمشكلة تُحلّ من الجذور: لا صحافة… لا مشاكل.

سيشتري كل ما ينطق، وما يكتب، وما يغرّد، وما يصوّر، وما ينشر، وما يتنفّس…

سينتقل روتني اليومي إلى المولات.. ستغرق المؤثرات في الشراكات.. وسنذهب نحن لقطف حبّات التوت في الحقول الإسبانية.

يكفي أن نعود إلى تقارير منظمة “مراسلون بلا حدود”، وهي تشهق مذعورة من حالة الاحتكار التي تخنق المشهد الإعلامي المغربي، لنفهم أن الرجل لا يؤمن بفكرة “إعلام مستقل”، بل بمبدأ بسيط للغاية:
“اشترِ القناة… تختفي المعارضة. اشتر الجريدة… تختفي الأسئلة. اشتر مدير الموقع… تختفي الحقيقة.”

إنه اقتصاد السوق مطبق حرفيا على حرية التعبير: العرض موجود… والطلب عند المناضل عزيز مفتوح، ما شاء الله.

وحين يكتمل الشراء، وتُطفأ آخر شاشة حرة، وتُطبع آخر جريدة مستقلة، سنُعلن للعالم أن مشكل حرية الصحافة في المغرب حُلّ إلى الأبد… بالحذف لا بالإصلاح.

في هذه اللحظة، وقبل أن يصل المناضل عزيز إلى وعده العظيم بفتح سلسلة مطاعم “الخبز وأتاي” في نيويورك وباريس، ارتطم كتاب “زمن مغربي” بالأرض.

نظرت إلى الغلاف… وجدت صورة فتح الله ولعلو، وهو ينظر إليّ بدهشة كأنه يقول:

“هل هذا هو زمنكم المغربي؟!”