موسيقى الراب في المغرب بين التمرد والتفريغ: قراءة في ظاهرة طوطو وجيله

شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة طفرة لافتة في شعبية موسيقى الراب، تجسدت في أرقام المشاهدات الخيالية، وفي الحشود التي صارت تتقاطر على حفلات بعض الأسماء، مثل طوطو الذي تحوّل حفلُه الأخير إلى حدث جماهيري ضخم. غير أن هذا النجاح الظاهري يثير في العمق أسئلة جوهرية تتجاوز “البوز” نحو مساءلة علاقتنا كشعب ومؤسسات بشبابنا، وبالثقافة نفسها كأداة للتعبير والبناء لا مجرد وسيلة للترفيه أو الصخب.
يختلف الراب المغربي اليوم عن تجارب سابقة مثل فرق الموجة كازا كرو ، دركة ، هوبا هوبا سبيريت، و التي حملت خطابًا نقديًا واضحًا يستند إلى وعي سياسي واجتماعي ويعبّر عن رفض السلطوية ونفاق المجتمع، بل كان هذا الخطاب في حد ذاته امتدادًا لتقليد غيواني عميق يربط الفن بالمشروع الثقافي التحرري. أما ما نراه مع طوطو وأقرانه، فهو في الأغلب تعبير عن تمرد مبهم، خالٍ من القدرة على صياغة فكرة متماسكة أو الدفاع عنها. هنا لا يتعلق الأمر بموقف أخلاقي سطحي، بل بتشخيص لفجوة معرفية وتربوية حقيقية، جعلت كثيرًا من الشباب عاجزًا حتى عن تكوين جملة مفيدة، وهو ما سبق أن لاحظته بحكم تجربتي التربوية المباشرة و أيضا عبر المتابعة الإعلامية .
لا يمكن في المقابل أن نلوم طوطو شخصيًا أو نحمله وحده وزر انحدار جزء من الذائقة العامة. فنجاحه الجماهيري هو نتيجة طبيعية لفراغ تركته المدرسة العمومية، ودور الشباب، والجمعيات، والمخيمات، وحتى الأسرة، التي كانت تؤطر الشباب وتمنحه قنوات للتعبير والتعلم والانتماء. الطبيعة لا تقبل الفراغ، وحين أهملنا التأطير الثقافي والاجتماعي، تكفلت شخصيات مثل طوطو، وسبعانون، وحليوة، وحتى ألعاب الفيديو، بملئه.
ما يثير القلق حقًا ليس قدرة شاب على حشد عشرات الآلاف، بل نوعية الخطاب الذي يروّج له ومستوى التلقي لدى الجمهور. ففي زمن كانت فيه أغاني المجموعات الملتزمة تعبّر عن طموحات جماعية ضد الاستبداد والتفاوت الطبقي، صار جمهور اليوم – الذي لا ينتمي لطبقة واحدة – ينجذب إلى رسائل تمجد المخدرات، والعنف الرمزي، والتمرد لأجل التمرد. من اللافت أن جمهور طوطو ليس حصريًا من الشباب الفقير أو المهمش؛ بل يضم أيضًا أبناء الأثرياء ممن لا يشاركون فعليًا في “هموم الطبقة المتوسطة أو الفقيرة” التي يزعم الخطاب التعبير عنها.
هذا الخليط العجيب يشي بأن الراب المغربي الحالي لم يعد، في مجمله، فنًا احتجاجيًا أصيلاً، بل تحوّل غالبًا إلى منتَج ترفيهي يستهلك الفراغ الروحي والثقافي لجيل كامل. لذلك فالسؤال الحقيقي ليس إن كان طوطو ظاهرة جيدة أو سيئة، بل كيف انتقل شباب المغرب من جيل “الهوبا” بوعيه وثقافته وإيمانه بالتغيير، إلى جيل “طوطو” الغارق في التمرد السطحي واللغة المبتذلة؟
الأسباب كثيرة، وبعضها يخصنا جميعًا: تراجع المدرسة، انحسار دور الأسرة، انسحاب الفاعلين الثقافيين، ترك المجال مفتوحًا أمام منطق السوق ومواقع التواصل لتحديد الذوق والخيال الجماعي.
إن طوطو ليس تعبيرًا عن “الجماهير الكادحة” كما قد يهوى بعض اليسار الرومانسي وصفه؛ فهو أولًا لا يمتلك، ومعه كثير من مستمعيه، ما يكفي من الوعي النقدي لفهم هذه المفردات أصلًا، وثانيًا لأن المغرب – رغم أعطابه – قطع شوطًا حقوقيًا ومدنيًا لا تلتقطه أغانيه.
لذلك، بدل الاكتفاء بلوم الشباب أو السخرية من مستواهم اللغوي، ربما علينا التفكير في إعادة بناء منظومة القيم والتأطير الثقافي والمعرفي التي سمحت قبل عقدين فقط لجيل مختلف أن ينشأ، جيل يقدّر الكلمة الهادفة ويحترم العقل ويعرف لماذا يرفض وما الذي يريد.
وحتى لا نغطي الشمس بالغربال، من حق أي فئة التعبير عن نفسها، لكن مسؤوليتنا أن نطرح أسئلة جادة عن المستقبل حين يغدو خطاب طوطو ومثله هو المهيمن على وعي جيل كامل قد يكون بعد سنوات هو من يدير أسرنا ومؤسساتنا.
إن الراب المغربي اليوم مرآة لخياراتنا الجماعية، ولعل أوضح ما تعكسه هو عجزنا عن تقديم بدائل أكثر جدية وعمقًا لشباب في حاجة إلى معنى، لا مجرد إيقاع.