موازين غزة
نوشك على إتمام الشهر الثامن بعد هجوم سابع أكتوبر 2023 المجيد الذي نفذته المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما زالت آخر مدينة مقاومة في العالم تبثنا أخبار الانتصارات والضربات والإنجازات العسكرية.
تصوّر معي أيها القارئ، تصوّر فقط، جماعة من الرجال المحاصرين والجائعين والعراة، ينصبون الكمائن للقوة الخاصة التابعة لأكثر جيوش العالم تسليحا ودعما ومساندة، فيأسرون من يأسرون ويقتلون من يقتلون، وفي اليوم الموالي يوجهون رشقات من القذائف نحو عاصمة الكيان المحفوف بكل أنواع الحماية والتحصين السياسيين والعسكريين…
نعم لقد أفجعنا الاحتلال الغاصب ليلة أمس في عشرات من الأبرياء والأطفال، ونفّذ محرقة جديدة في حق المدنيين، لكنها دليل إضافي على ضعفه وجبنه.
القوي لا يقتل الأبرياء ولا يصبّ حمم النيران فوق رؤوس الآمنين والمدنيين.
الكيان الذي تربى وعاش في كنف القوى الغربية المستأسدة على العالم منذ قرن تقريبا، في وضع دفاعيو ويحاول أن يداري ضعف موقفه العسكري والتفاوضي وسط أكوام الجثث والأشلاء.
تصوّر معي أيها القارئ، أغمض عينيك وحاول أن تتصوّر أن دافيد بترايوس، نعم هو نفسه الجنرال الأمريكي الذي قاد القوات الأمريكية في العراق ويعتبر “بطل” المعركة الكبرى ضد ما يسميه تنظيم القاعدة… تصور أن هذا المسؤول العسكري الكبير الذي تولى رئاسة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لاحقا، يتحدّث هذا الأسبوع عن إسرائيل بنون الجماعة، ويقول إن “بإمكاننا” أن ننتصر في غزة ونقضي على حماس، شريطة استعمال إسرائيل الوصفة نفسها التي استعملها هو في العراق متوليا قيادة قوات متعددة الجنسيات.
تتمثل هذه الوصفة في الجمع بين استعمال القوة العسكرية في أقصى قدراتها، وإلا ما كان ليشترط في واشنطن حصوله على تعزيزات إضافية قبل توليه قيادة قوات بلاده في العراق، لكن مع العمل على فصل المقاومة عن حاضنتها الاجتماعية، أي المراهنة على الساكنة أولا.
كان هذا التذكير بتطورات الأوضاع ضروريا قبل أن نتطرق إلى موقفنا كمغاربة مما يجري، لأن الأنباء المتواترة هذه الأيام، تصرّ على ذكر سيرتنا في إطار مخطط أمريكي لنشر قوات عربية تحت مظلة دولية، يفترض حسب هذه الأنباء أن يكون ضمنها عسكريون مغاربة إلى جانب آخرين من مصر والإمارات…
علينا أن ننتبه جيّدا إلى كل ما يدبّر حاليا بشأن القضية الفلسطينية، لأنه ورغم الانتصار البطولي للمقاومة في الميدان، لا يقل خطورة عما كان يدبّر قبل طوفان الأقصى.
وإذا كان من بيننا بعض الذين لم يعد يعجبهم أصل الحديث عن حقوق الفلسطينيين وواجب دعمهم سواء من منطلقات دينية أو ثقافية أو إنسانية، فلنركّز فقط على مصلحتنا الوطنية، وما يهمّنا بشكل مباشر في هذه الترتيبات التي يتم تنزيلها، وكيف نتصرّف حيالها سواء شعبيا أو رسميا، ونتجنّب الإيقاع بنا في ورطة نصبح معها مجبرين على الهروب إلى الأمام.
جزء كبير من مستقبل العالم يتم تحديده الآن انطلاقا مما يقع في فلسطين، وعلينا كباقي أمم ودول العالم أن نتأكد من وقوفنا في الجانب الصحيح من التاريخ، ونستثمر في الذي يدوم ويُثمر، ونحرص على أن نزرع اليوم ما يبقي على كياننا صامدا ومتماسكا أمام تهديدات الغد التي لا أحد يمكنه أن يتوقع طبيعتها ولا مداها.
لا يمكننا في سياق كل ما تموج به الدنيا من حولنا أن ندسّ رؤوسنا في التراب ونتصرّف كأننا في جزيرة لا يأتيها من الخارج سوى النسيم والطيور المهاجرة.
ما يعتمل حاليا من مخاض في رحم مجتمعنا بخصوص دورة هذه السنة من مهرجان “موازين” الموسيقي، لا يمكن أن نتجاهله أو نعامله كما كنا نفعل قبل سنوات حين كان الأمر مجرّد تصريف لأجندات أيديولوجية.
فباستثناء من يحمل مشروعا أيديولوجيا محافظا أو دينيا، وهذا خيار مشروع ولا عيب فيه إن هو تجسّد في شكل برنامج سياسي منضبط لقواعد الديمقراطية والامتثال لرأي الأغلبية، (باستثناء ذلك) لا يمكن للمرء أن يكون ضد الفن، أو الفرجة، أو الفرح، أو الترفيه.
المعركة في شقها الأيديولوجي هذا حُسمت منذ سنوات، حين كان هذا المهرجان ينظّم في ظل حكومة يقودها حزب إسلامي، وجرى بكل الوضوح الممكن رسم الحدود الفاصلة ين الاختيارات التدبيرية المرتبطة بالشأن العام، وبين فضاء الحرية والتعبير الذي ينبغي أن يظل مفتوحا على التنوع.
ما يجري هذه السنة مختلف وعلينا أن نقرأه في سياقه، لأن الأمر يتعلق باختيار الدول والشعوب والأمم لمواقعها التاريخية، والمهرجان المبرمج لم يعد شأنا داخليا صرفا، بل بات بعدما خرجت أصوات مغربية وفلسطينية لتطالب بالامتناع عن الرقص والفرح فوق جثث ضحايا المحرقة الجديدة، جزءا مما سيجيب عن سؤال “من نحن؟” في المستقبل القريب.
لا يمكن أن نكون منكفئين ومنغلقين ومنفصلين عن محيطنا الإقليمي والدولي، بالشكل الذي يعمي بصيرتنا عن هذا الفرز الذي تعيشه البشرية هنا والآن، بين منتصر لإنسانيته ومتنازل عليها.
لا يمكن ألا نلتقط هذا الاستثمار الواضح لأمم قريبة وأخرى بعيدة، في الاختيار الصحيح الذي يبقيها قادرة على الاستمرار كأمم متماسكة وملتفة حول أفكار واضحة.
إسبانيا الأوربية المسيحية المجاورة لنا أكبر حجة علينا، وما يفعله سياسيوها حاليا لا يمكن أن يجرأ أي سفيه على تجريده من بعده الوطني الخالص.
الإسبان والنرويجيون والإيرلنديون ومعهم جنوب إفريقيا وجل دول أمريكا اللاتينية، لا يتخذون المواقف الداعمة للحق الفلسطيني، والرافضة للعدوان الاسرائيلي لسواد عيون فتح أو حماس. بل يفعلون ذلك لأن الأمم القوية والقادرة على الاستمرار والتقدم، هي التي تنسج سردية مقنعة وعادلة ومنصفة، ووحدها العصابات والمافيات يمكنها أن تلتف حول فكرة مصلحية أو إجرامية.
لابد أن ننتبه إلى ما نقدم عليه حاليا، من توقيع على اختيارات سترهن مستقبلنا جميعا، لأنها سترسّخ في أذهان أجيال كاملة كيف “تصرّفنا” في لحظة إنسانية فارقة، وكيف تصرّفت دولتنا.
لا يمكن أن يقنعنا أحد، أو يقنع نفسه، أن الأمر يتعلّق بنشاط خاص وليس بسياسة رسمية. وعلى من يعوّل على مثل هذا الخطاب أن يقنع المغاربة أولا بوجود فصل بين الرأسمال الخاص والقرار العمومي، ويوضّح لهم مثلا، أين ينتهي أخنوش الذي يتاجر في الغاز وأين يبدأ أخنوش الذي يصرف ويقلّص دعم “البوطا”؟
لابد أن ننتبه إلى أننا نوظف اسم وثقل ورمزية الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، في حفلة سوف يسجّلها علينا القريب والبعيد، حفلة تنكرية للرقص فوق أشلاء الفلسطينيين.
علينا أن ننتبه مثلا إلى أننا ندعو ونستضيف نجمة الراب الأمريكي، نيكي ميناج، التي جعلتها حملة شعبية أمريكية ضمن القائمة الأولى للنجوم الذين يجب حظر حساباتهم في المنصات الرقمية، فقط لأنهم صمتوا عن إدانة الإبادة الإسرائيلية في غزة.
أذكر أنني شاركت كطالب قبل نحو 18 سنة في منتدى عربي احتضنته مدينة العيون، وكان يرافقنا في تلك الرحلة فنانون تمت دعوتهم لتنشيط سهرة احتفالية في اختتام المنتدى، لكننا وما إن وصلنا حتى اندلع عدوان إسرائيلي على غزة، فتقرر فورا إلغاء الحفل، وجلسنا بدل ذلك نستمتع في جلسات خاصة بصوت فنان الراي رشيد برياح، وهو يصدح بمواويل حزينة بمضمون روحاني وديني.
كما أذكر أننا ورغم كوننا كنا في مرحلة سياسية حساسة لانتقال العرش، منذ ربع قرن تقريبا، لم نتردد في إلغاء العمل باتفاقية تبادل مكاتب الاتصال، وأنهينا مع حالة “التطبيع” تلك بمجرد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتعرّضها للبطش والتنكيل الإسرائيليين.
وبالتالي علينا أن نعي اليوم أن الموازين الحقيقية ليست هي التي سنرقص على إيقاعاتها في منصات الرباط وسلا، بل هي تلك التي تصنعها مقاومة شعب صامد هناك في فلسطين، ينصب الكمائن للغزاة تحت الأرض، ويعانق حمم النيران والقنابل فوقها.
علينا أن ننتبه لأن ما يمكن تعديله أو تصويبه أو تصحيحه الآن، قد لا يكون ممكنا غدا.
الموازين الحقيقية تُصنع في غزة،
لا في تازة ولا في الرباط!