ملف المحروقات بين حسابات السياسة وتخبط مجلس المنافسة
يثير ملف المحروقات في المغرب منذ ثمان سنوات الكثير من الجدل، بسبب أسعار البيع المرتفعة في السوق الوطنية رغم دنوها في الأسواق الدولية. وسط تبادل الاتهامات بين بعض الفرقاء السياسيين، وتخبط مجلس المنافسة، الذي يعتبر الآلية الدستورية لضمان الشفافية في العلاقات الاقتصادية وضبط وضعية المنافسة، في الخروج بقرار قطعي ينهي حالة “التواطؤ” بين الشركات المشتغلة في المجال، والتي أدانها المجلس أكثر من مرة وفي مناسبات متعددة.
وكانت آخر إدانة وجهها مجلس المنافسة إلى شركات المحروقات في المغرب هو البلاغ الذي أصدره مساء أمس ينذر فيه تسع شركات تنشط في الأسواق الوطنية للتموين والتخزين وتوزيع المحروقات، وذلك بعد “تبوث ارتكابهم مخالفات منافية لقواعد المنافسة “، حسب ما جاء في البلاغ.
وتعود أحداث ملف قطاع المحروقات بالمغرب، الذي أثار الكثير من الجدل في الأعوام الأخيرة، إلى سنة 2015، حينما قامت الحكومة آنذاك بتحرير أسعار المحروقات، في ظل غياب آليات للرقابة وعلى رأسها مجلس المنافسة الذي كان معطلا بسبب عدم تنصيب أعضائه.
ويرجع سبب تحرير الحكومة لقطاع المحروقات إلى ارتفاع ميزانية صندوق المقاصة الذي كان يدعم القطاع، إلى أكثر من 50 مليار درهم، وما يشكله هذا الرقم من ضغط على الميزانية العامة للدولة.
بعد هذا التحرير أصبحت أسعار المحروقات في المغرب، من حيث الارتفاع والانخفاض، مرتبطة مبدئيا بتقلبات الأسواق الدولية. لكنها في الواقع ظلت مرتفعة في محطات الوقود بالرغم من انخفاضها على مستوى الأسواق الدولية في العديد من المناسبات، هذا الأمر أثار الكثير من الجدل حول وجود شبهة تواطؤ بين مختلف الشركات المشتغلة في المجال، مما حدا بالمؤسسة البرلمانية على مستوى الغرفة الأولى إلى تشكيل مهمة استطلاعية بعد مرور سنتين على تحرير القطاع، من أجل “معرفة وتحليل معادلة احتساب أسعار المحروقات ومدى استجابتها ونسبيتها مع التغيرات في أثمان البترول على الصعيد الدولي”. وذلك بعد الارتفاع القياسي لأسعار المحروقات، وتأثير ذلك على المواد الاستهلاكية، وعلى القدرة الشرائية للمواطنين.
استمر عمل المهمة الاستطلاعية حول أسعار المحروقات بالمغرب لعدة أشهر قبل أن تصدر سنة 2018 تقريرا تركيبيا من 77 صفحة اتهمت فيه شركات المحروقات بالمغرب بتحصيلها لأرباح غير قانونية بلغت قيمتها 18 مليار درهم، وتم عرض التقرير بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب للمناقشة، ثم قرر بعدها مكتب مجلس النواب رفع التقرير إلى الجلسة العامة بهدف مناقشته واتخاذ الإجراءات المصاحبة لهذا القرار، وأعلنت الحكومة حينها عن اتخاذ اجراء يقضي بتسقيف أسعار المحروقات لكنها تراجعت عنه بعد ذلك، وقد خلق ذلك نقاشا سياسيا كبيرا وتبادل الاتهامات بين بعض الفرقاء السياسيين حول ما جاء به التقرير.
وفي سنة 2018 قام الملك محمد السادس بتعيين ادريس لكراوي رئيسا لمجلس المنافسة الذي أعد تقريرا بعد سنتين على تعيينه حول ” التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب”. ورفعه إلى الملك، يقضي بفرض غرامة مالية تصل إلى “9 في المائة من رقم المعاملات السنوي المحقق بالمغرب” بالنسبة للموزعين الثلاثة الرائدين، وبمبلغ أقل بالنسبة لباقي الشركات. وبعد أيام قليلة توصل الملك بتقرير آخر من رئيس مجلس المنافسة حول نفس الموضوع يطلعه فيه ب “قيمة الغرامات المفروضة” على الموزعين التي تم تحديدها هذه المرة في حدود 8 في المائة من رقم المعاملات السنوي دون تمييز بين الشركات. وفي نفس اليوم تفاجأ لكراوي ببعض أعضاء المجلس يشتكون منه إلى الملك في مذكرة أبرزوا من خلالها أن “تدبير هذا الملف اتسم بتجاوزات مسطرية وممارسات من طرف الرئيس مست جودة ونزاهة القرار الذي اتخذه المجلس”، هذا الأمر دفع الملك إلى تكليف لجنة خاصة، للبت في الموضوع، ضمت كل من رئيسي مجلسي البرلمان، رئيس المحكمة الدستورية، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، والي بنك المغرب، ورئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، على أن يضطلع الأمين العام للحكومة بمهمة التنسيق. وذلك بهدف تفسير الارتباك الذي طال القرارات المتضاربة لمجلس المنافسة بخصوص ملف المحروقات، قامت اللجنة بدورها بإعداد تقرير رفعته إلى الملك، وبناء عليه تم إعفاء إدريس الكراوي من رئاسة مجلس المنافسة، وعُين مكانه أحمد رحو في مارس 2021.
بعد مجيء رحو أصدر في أكتوبر 2022 تقريرا حول “الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام والمواد الأولية في السوق العالمية، وتداعياته على السير التنافسي للأسواق الوطنية” جاء فيه أن “أرباح سبع شركات رائدة في سوق توزيع المحروقات في المغرب تناهز 1.68 مليار درهم سنويا عن نشاط بيع الغازوال والبنزين” خلال السنوات الأربع الممتدة بين 2018 والأشهر الأربعة الأولى من عام 2022″. معطيات هذا التقرير جعلت بعض المركزيات النقابية تصفه بالتقرير المحتشم الذي تعوزه المعطيات اللازمة، متهمة في نفس الوقت رئيس مجلس المنافسة بمحاولة “خلط الأوراق والتستر على الأرباح الحقيقية”.
ومن المفارقات أنه بعد عدة أشهر عاد أحمد رحو إلى توجيه “مؤاخذات” حول ممارسات منافية لقواعد المنافسة إلى تسع شركات لتوزيع المحروقات.
وقال مجلس المنافسة في بلاغ له مساء أمس إنه “تم تبليغ مؤاخذات متعلقة بممارسات منافية للمنافسة إلى تسع شركات تنشط في الأسواق الوطنية للتموين والتخزين وتوزيع البنزين والغاز وال”. موضحا أن هذا القرار جاء بعدما “خلصت مصالح التحقيق إلى وجود حجج وقرائن كافية تفيد ارتكاب الشركات المعنية بالمؤاخذات لأفعال منافية لقواعد المنافسة”.
ويتخذ ملف المحروقات في المغرب أبعادا سياسية تؤثر بشكل كبير على تسويته، نظرا لكون شركة “أفريقيا غاز” التي تعد أكبر مستثمر في مجال المحروقات في المغرب تعود ملكيتها إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش. وتسيطر إلى جانب شركتي “توتال” الفرنسية و”شل” الأمريكية على الحصة الأكبر من سوق المحروقات في المغرب.