معنى اليد الملكية الممدودة للجزائر

ليست جديدة هذه اليد التي مدّها الملك محمد السادس مجددا نحو الجزائر في خطاب عيد العرش مساء الثلاثاء 29 يوليوز 2025، لكنها هذه المرة كانت أوضح، وأكبر وقعا، وأبعد ما تكون عن المجاملة البروتوكولية أو محاولات التجميل السياسي.
لقد جاءت البادرة هذه المرة بعد سنوات من القطيعة الرسمية، وتراكم أسباب التوتر، وتزايد أساليب التحريض والعداء، لكنها اختارت أن تخاطب الشعب الجزائري لا نظامه، وأن تبعث برسالة سلام لا تهادن، وتُذكّر بتاريخ مشترك لا يُلغى، مهما علت أصوات الاستعداء.
خلّف هذا الخطاب نقاشات وردود فعل واسعة، تمحورت حول نقطتين أساسيتين:
أولاهما هذا الإصرار على تجديد عرض الصداقة والتقارب مع الجزائر، وتوجيه خطاب مفعم بالود والتقدير للشعب الجزائري، في لحظة يُخيّل فيها للبعض، خاصة من داخل الإعلام شبه الرسمي، أن الدولة المغربية قررت “حرق السفن” مع الجزائر، واعتماد منطق العداء المطلق والرفض الكلي للآخر.
وثانيتهما حديث الملك عن حل سياسي توافقي لقضية الصحراء، “لا غالب فيه ولا مغلوب، ويحفظ ماء وجه الجميع”، وهي العبارة التي أثارت لدى البعض مخاوف وتوجّسات، وصلت حدّ القول بإمكانية تنازل المغرب عن جزء من صحرائه لصالح الجزائر، في سياق مقايضة أو تسوية سياسية.
لكن قبل الوقوع في فخّ سوء الفهم أو التهويل، لابد من قراءة هذا الخطاب في سياقه التاريخي والسياسي الأوسع.
أولا، اليد الممدودة ليست تكتيكا. فمنذ توليه العرش، أصرّ محمد السادس في أكثر من مناسبة على التعبير عن رغبته في بناء علاقات طبيعية مع الجزائر. ليس من باب الضعف، ولا من قبيل التنازلات، بل لأن منطق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة يفرض ذلك على أي نظام سياسي عقلاني في المنطقة.
لم تكن يوما هذه اليد الملكية الممدودة علامة تراجع، بل هي عنوان على نضج استراتيجي، يدرك أن الحروب الإقليمية، وإن بدت مُغرية للأنظمة التي تعيش أزمات داخلية، فإنها لا تصنع لا تنمية ولا أمنا.
لكن اللافت في خطاب 2025، أن اليد الممدودة لم تعد تُخاطب “النظام الجزائري” أو “رئيسه”، كما كان الحال سابقا، بل أصبحت تتوجه مباشرة إلى “الشعب الجزائري الشقيق”، وهذا تحول دلالي مهم.
إنه إعلان غير معلن عن فقدان الأمل في تحوّل موقف النظام، وإدراك بأن الرهان يجب أن يكون على الشعوب. كما أنه يُحرج النظام الجزائري الذي لم يعد يملك أي غطاء لتبرير حالة الانغلاق والتصعيد، ويُحمّله مسؤولية ما تعيشه المنطقة من خسائر تنموية واقتصادية، بسبب اختياره الدائم للقطيعة.
ثانيا، لا غالب ولا مغلوب… في ماذا؟ هنا مربط الفرس. البعض قرأ هذه العبارة في غير سياقها، وظنّ أنها قد تعني استعدادا مغربيا للتفاوض على السيادة في الصحراء. وهذا خطأ جسيم. فخطاب الملك كان واضحا في التمييز بين قضيتين: السيادة المغربية على الصحراء، التي أكدها بدعمه للمبادرة الأممية للحكم الذاتي في إطار سيادة المملكة، وحيا من ساندها من الدول الكبرى؛ وبين القضايا العالقة مع الجزائر، والتي دعا إلى الحوار بشأنها، بمنطق “لا غالب ولا مغلوب”.
وهنا تحديدًا علينا أن نُحسن الفهم: هذه القضايا العالقة لا تتعلق بالصحراء المغربية، بل تتعلق بما يحيط بها من ملفات استراتيجية: الحدود المغربية الجزائرية، والمياه الجوفية والسطحية، وشبكات النقل واللوجستيك في المناطق الصحراوية، وفرص التعاون عبر الأطلسي، ومبادرة المغرب لربط الساحل بالمتوسط والمحيط.
كلها ملفات شائكة تُحاول الجزائر عبرها تبرير أطماعها في الوصول إلى الأطلسي، بينما يطرح المغرب، ضمن رؤيته الأطلسية، مقترحا واقعيا للاستفادة الاقتصادية والأمنية المشتركة، دون المسّ بوحدته الترابية.
المسألة الأهم، والأكثر حساسية في هذه الملفات العالقة، هي التقارب المغربي الموريتاني المتزايد، والذي يمضي بثبات نحو بناء محور استراتيجي جديد في المنطقة، سيبلغ ذروته مع التسوية النهائية لملف الصحراء، وقيام حكم ذاتي موسّع تحت السيادة المغربية، وهو ما سيُخرج الجزائر بالكامل من المعادلة، ويُنهي حالة التجميد الإقليمي التي فُرضت منذ عقود بقرار جزائري. تماما كما يفعل خاطف الرهينة مع أهلها.
ومن الزاوية الجيوسياسية الأوسع، لا يمكن فصل هذا الخطاب الملكي عن السياق الإقليمي والدولي الذي جاء فيه، خصوصا تزامنه مع زيارة مستشار الرئيس الأمريكي، مسعد بولس، للمنطقة.
فرغم أن إدارة ترامب الثانية تُعبّر بوضوح عن دعمها لموقف المغرب في ملف الصحراء، إلا أن واشنطن، كقوة عظمى، لن تُغامر بالتفريط في مصالحها الاقتصادية والأمنية مع الجزائر، خاصة في ظل التحولات الكبرى في خارطة الطاقة والمعادن والرهانات الاستراتيجية في الساحل.
من هذا المنظور، يبدو الخطاب الملكي كأنه موجّه بذكاء مزدوج: إلى الداخل المغاربي من خلال عرض اليد الممدودة، وإلى الخارج الأميركي من خلال التموقع في المكان السياسي السليم، باعتبار المغرب شريكا موثوقا يسعى إلى الاستقرار، ويبادر إلى الحلول بدل الانغلاق والتصعيد.
بهذا، لا يكتفي المغرب بتثبيت شرعيته الترابية، بل يسعى إلى تعزيز موقعه كقوة ناعمة عاقلة وسط توازنات صلبة، تعرف أمريكا تماما أنها لا تُدار بالشعارات، بل بموازين القوة والمصالح.
وأخيرا، إن اليد الملكية الممدودة للجزائر، في هذا الخطاب، ليست مجرّد تعبير عن موقف مبدئي، بل هي أيضا جزء من استراتيجية إقليمية ناعمة، تستبق التحولات القادمة في المنطقة، وتُراهن على العقلاء في الجوار، وتضع النظام الجزائري في الزاوية، من خلال لغة مسؤولة، ودعوة حوار، وعرض شراكة.
هي رسالة إنسانية قبل أن تكون سياسية. تقول للجزائريين: نحن لا نحمل لكم الحقد، ولا ننتظر منكم الاعتذار، بل نريد فقط أن نتحدث كجيران، نبحث عن مستقبل مشترك، بدل أن نموت بأعمارنا ومواردنا في لعبة العناد.
كما أنها تثبيت لخط أحمر واضح: الصحراء مغربية، والحكم الذاتي سقف الحل، لكن كل ما يحيط بها قابل للنقاش والتفاوض… فقط إذا كانت هناك نية صادقة للسلام.
هكذا يمكن أن نقرأ خطاب عيد العرش لسنة 2025، لا كرسالة ظرفية أو مبادرة لحفظ ماء الوجه، بل كبوصلة استراتيجية في منطقة تاهت عن عقلها. فاليد التي مدّها الملك محمد السادس مجددا نحو الجزائر يدًا مكرورة أو استهلاكا دبلوماسيا، بل تجديد لمسار يريد أن يصنع السلام من داخل الموقف، وأن يؤسس للجوَار من داخل السيادة.
المفارقة أن في أكثر اللحظات توترا، تختار الرباط أن تتحدث لغة الهدوء، وأن تراهن على وعي الشعوب لا تقلبات الأنظمة. وهذا في حد ذاته، إعلان عن انتصار شكل آخر من أشكال القوة: القوة التي لا تحتاج إلى خصم لتُعرف، بل إلى أفق مشترك لكي تثمر.