story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

معانا ولا مع غانا؟

ص ص

فوجئت مساء أمس بهذا الاختلاف الكبير بين ما يحصل بالفعل وما ينتشر بين الناس ويستأثر بنقاشاتهم. قرأت وشاهدت بعض التدوينات والتعليقات بشأن تصريح لمدرب المنتخب الوطني وليد الركراكي في ندوته الصحافية الخاصة بمباراة جنوب إفريقيا، لكنني سرعان ما اكتشفت أن ما قاله لا يطابق ما نسب إليه، ومن طرف بعض ممن يفترض فيهم الأمانة والدقة في النقل.
الرجل لم يخطئ في شيء، وقال ما يجب أن يقوله ممارس محترف للعبة توصف بالساحرة المستديرة، ونأى بنفسه عن نقاشات هوياتية عقيمة، واستحضر سياقه كمشارك في منافسة رياضية قارية لا أقل ولا أكثر.
لقد تأسف الرجل لإقصاء المصريين ووصفهم ب”خوتنا”، وفرح لتأهل الكونغوليين بروح رياضية، واستحضر بين هذه وتلك سياقه الشخصي الحساس المتمثل في قرار توقيفه من طرف الاتحاد الافريقي ثم تراجعه عن هذا القرار، وإصرار الاتحاد الكونغولي على “مقاضاته” أمام محكمة “طاس” الدولية…

هذا كل ما في الأمر.
مؤسف للغاية أن تتحول تصريحات وليد، التي حرص فيها على الاستعانة باللغة الفرنسية تجنبا للألغام، إلى مطية لتأجيج مشاعر سلبية تثير توترات عرقية مفتعلة، وتصرّف عقدا عنصرية. ومخيف أن تتحوّل مباراة عادية جدا، إلى فرصة لتصفية حسابات سياسية وايديولوجية لدرجة طرح السؤال حول تشجيع المنتخب الوطني أو مساندة خصمه الجنوب أفريقي، والذي يذكّر بسؤال “معانا ولا مع غانا؟”، بكل حمولته التي تمتح من منطق محاكم التفتيش والحجر على الناس وتقييد اختياراتهم في أمور شديدة الخصوصية.
ما معنى تشجيع منتخب وطني معين على أساس سلوك وقرارات حكومته؟ هل يصبح هناك اختلاف في هذه الحالة بين من يقوم بذلك وبين الأنظمة الشمولية التي تستحوذ على المنتخبات الرياضية وتحولها إلى منصات للدعاية والتدجين؟
إذا تركنا الأندية والفرق المحلية التي أفضل الاحتفاظ برأيي في تشجيعها ومتابعتها لنفسي كي لا أثير حفيظة جماهيرها، وأكتفي بالقول إن للأمر علاقة بالبحث عن تعويض وعن سبيل للهروب من الواقع، فإن تشجيع المنتخبات الوطنية مختلف كليا، لما يوفره من لحظات نادرة للوحدة والائتلاف وتجاوز الخلافات والاختلافات.
وإذا كان للمثقفين ومن يفترض أن يكونوا مؤثرين حقيقيين، أن يخوضوا في الموضوع، فلكي يعززوا هذه القيم الإيجابية، ويبرزوا المشترك الإنساني، سواء بين أبناء الوطن الواحد أو المشترك الكوني، فكيف يسمح البعض لنفسه بافتعال التقاطبات وإثارة النعرات والتحريض على الكراهية وتغذية العداوات؟
للنزال المرتقب هذه الليلة كل مقومات الإثارة والتشويق، فهو يجمع بين أكبر دول القارة من حيث التأثير وحجم الاقتصاد والطموح الدولي لشغل منصب العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي باسم القارة الإفريقي…
وهي أيضا مباراة بين منتخبين كبيرين من حيث المشاركات في كأس العالم، وكلاهما متعطش للفوز بالكأس الإفريقية التي حصل عليها كل منهما لمرة واحدة في تاريخه.
وهي المباراة الأخيرة برسم دور ثمن النهاية، أي التي ستنهي عقد المتأهلين لدور الربع…
كلها عناصر تشويق وإثارة ترفع من قيمة المباراة وتزيد من متعة مشاهدتها، لكن هل علينا أن نحب أو نكره جنوب أفريقيا؟
يبدو أن الساحرة المستديرة تستبد بالعقول فتسلبها وتتلفها، لدرجة يعجز معها البعض عن التمييز بين مجال التنافس الرياضي بكل حمولاته العاطفية والرمزية، والمجالات الأخرى التي لا تعوضها الرياضة ولا تحل محلها ولا تعفي من خوضها
الكرة مجردة كرة يا سادة، لا عيب في لعبها أو مشاهدتها أو الاهتمام بها من باب التفريغ والتنفيس والترويح عن النفس، بل لا ضير في استثمارها لتحقيق غايات اجتماعية واقتصادية، وحتى سياسية، لكن ذلك كله يُفترض أن يتم، من طرف العقلاء، في اتجاه التحفيز على الآثار الإيجابية واستثمار لحظات الحماس والتعبئة والانخراط لإحياء النفوس وتبديد العداوات وتقريب المتباعدين.
هناك مسؤولية اجتماعية لمن يفترض فيهم أن يكونوا مؤثرين حقيقيين، تقتضي منهم المساهمة في عقلنة هذه المشاعر الفياضة التي تثيرها منافسات رياضية مثل كرة القدم، واستغلال توفر هذا القدر الكبير من الانتباه والاستعداد للتفاعل لدى شرائح واسعة ومتنوعة من الناس، لبث موجات إيجابية والتشجيع على القبول بالآخر والاحتفاء بالمشترك الإنساني وحمل الجماهير على اكتشاف فرص التعايش رغم الاختلاف، والقبول بالقواعد، والحرص على تطبيقها بنزاهة وحياد… وهذه كلها عوامل تساعد على التمكين لقيم الديمقراطية والتعدد والقبول بالاختلاف.
لدينا في الأخلاقيات المهنية للصحافة، قاعدة تُستحضر في نهاية المسار الذي يقطعه إنتاج المادة الصحافية، أي بعد الفراغ من التحري والاستقصاء وجمع المعطيات، بل وبعد نهاية مرحلة الإعداد بالكتابة والتحرير والتوضيب والميكساج… تسمى “كبح الجماح”.
تقضي هذه القاعدة بالحرص على التقليل من الآثار السلبية للمادة الصحافية مهما كان مضمونها صحيحا ودقيقا ومتوازنا، كي لا يُحدث أثرا ماديا أو معنويا سلبيا يتجاوز الغرض الأصلي في الإخبار أو التنوير أو التنبيه إلى مشكلة.
قاعدة يمكن إسقاطها بكل سهولة على أدوار ومساهمات كل صاحب موقع تأثير من العقلاء والمثقفين،
فدولة جنوب إفريقيا في دورها وتفعل ما يمليه عليها مسارها التاريخي بكل خصوصياته وتفاصيله وتناقضاته، والمغرب أيضا يعيش محصلة تفاعل مقوماته التاريخية والثقافية والاقتصادية والبشرية، ولا داعي للخلط والتركيز على عناصر التوتر والفرقة والتناقض.
وسواء في الكرة أو في السياسة والاقتصاد، لا جنوب إفريقيا، الدولة التي عاشت على مدى عقود نظاما للميز العنصري، ثم حققت مصالحة وانتقالا ديمقراطيا غير مكتمل، تحتمل الشيطنة أو التقديس، ولا المغرب الذي عاش سنوات رصاصه وتجاوزها بطريقته الناقصة، يستدعي في حبه أي تنطع أو التبخيس.