مطالب حقوقية بتجاوز القراءات “التقليدية” للنصوص الدينية في قضايا النسب

لازال الاختلاف في وجهات النظر حول تبني فحص الخبرة الجينية في إثبات نسب الأطفال الذين يولدون خارج مؤسسة الزواج، يثير الكثير من الجدل، خاصة بعد رفض المجلس العلمي الأعلى لهذا المقترح، في سياق التعديلات المنتظر إدخالها على مدونة الأسرة، بحيث يطالب حقوقيون بضرورة قراءة النصوص الدينية في هذا الشأن من زاوية إنسانية ومقاصيدية، معتبرين أن “الوقت قد حان لاستخدام هذه الوسيلة العلمية للحوق النسب”.
وفي هذا الصدد، أكدت عضوة “مجموعة نساء شابات من أجل الديمقراطية”، هدى سحلي، الحاجة الملحّة لقراءة جديدة للنصوص الدينية في ما يرتبط ببعض مواد مدونة الأسرة، قراءة مقاصدية وإنسانية تُعيد الاعتبار لحقوق الأطفال بغضّ النظر عن ظروف ولادتهم، وتُنصف الأمهات العازبات أمام ما وصفته بـ”الوصم والتجريم المجتمعي والقانوني”.
وأوضحت سحلي أن استمرار العمل بالحديث النبوي الشريف “الولد للفراش وللعاهر الحجر” كقاعدة فاصلة في الاعتراف بالنسب، “بات يتعارض مع تطور الوسائل العلمية الدقيقة كاختبار الحمض النووي، ومع التحولات الاجتماعية التي لم يعد الزواج فيها الإطار الوحيد للعلاقات”.
واعتبرت المتحدثة ذاتها، في تصريح لصحيفة “صوت المغرب” أن هذا “المفهوم القديم أصبح حاجزًا قانونيًا وأخلاقيًا يفاقم معاناة الأمهات والأطفال”، بدل أن يوفر لهم الحماية والاعتراف.
وشددت على أن الدعوة اليوم هي إلى فتح باب الاجتهاد والتفكير الجماعي، من أجل بناء منظومة قانونية ودينية أكثر عدلاً، تتماشى مع دستور البلاد، والتزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان، ومع متطلبات الواقع المجتمعي الذي يحتاج إلى قدر من الجرأة التشريعية والإنسانية.
وفي معرض حديثها عن المرجعية الدينية، أوضحت سحلي أن الجمعية، رغم عدم ادعائها التخصص في العلوم الشرعية، “تستند في موقفها إلى الواقع المعاش والتفاعل الميداني مع معاناة النساء والأطفال”، معتبرة أن “هناك حاجة ملحة لتجاوز بعض القراءات التقليدية للنصوص، والتي لم تعد منسجمة مع روح العصر ومبدأ الكرامة الإنسانية”.
وشددت على أن الدعوة ليست إلى قطيعة مع المرجعية الدينية، “بل إلى الانفتاح على إمكانيات التجديد داخل الفكر الإسلامي نفسه”، انطلاقاً من مقاصد الشريعة الكبرى، وعلى رأسها، حفظ النفس، وحفظ النسل، وصون الكرامة.
الخبرة الجينية
وأشارت هدى سحلي، عضوة مجموعة نساء شابات من أجل الديمقراطية، أن التخوفات التي تروَّج حول اعتماد الخبرة الجينية في قضايا النسب، باعتبارها تهديدًا لتماسك الأسرة وزرعًا للشك بين الأزواج، “لا تستند إلى وقائع ملموسة”، بل تعكس مخاوف تحتاج إلى معالجة قانونية رصينة وليس إلى رفض مبدئي.
وشددت المتحدثة على أن التعبير عن التخوفات مشروع، لكن المطلوب هو البحث عن حلول قانونية وتنظيمية تحترم الخصوصية، وتمنع الاستعمال التعسفي أو الانتقامي للخبرة الجينية، بدل اتخاذ هذه المخاوف ذريعة لحرمان الأطفال من حقوقهم الأساسية.
واعتبرت الناشطة الحقوقية “أن ربط استقرار الأسرة بإخفاء الحقيقة أو بإنكار النسب لا ينسجم مع مبدأ العدالة”، بل يُفاقم الظلم الواقع على فئات مجتمعية هشة، وفي مقدمتها الأمهات العازبات وأطفالهن.
وقالت سحلي إن “مجموعة نساء شابات من أجل الديمقراطية” لا تنظر إلى اختبار الحمض النووي كأداة لهدم الأسرة، “بل كوسيلة لضمان العدالة في حالات النزاع أو إنكار النسب”، بحيث يُترك الطفل في فراغ قانوني واجتماعي، ويُحرم من الهوية والرعاية.
وأضافت أن الثقة بين الأزواج لا تُبنى على الصمت أو إخفاء الحقيقة، بل على الشفافية، والمسؤولية المشتركة، والقدرة على مواجهة الأسئلة المشروعة بشجاعة ووضوح.
وختمت سحلي تصريحها بالتأكيد على أن تحقيق العدالة الأسرية لن يتم عبر تجاهل الواقع أو تجميد النصوص، “بل من خلال بناء منظومة قانونية تواكب التحولات المجتمعية، وتحترم كرامة الإنسان، وتضمن الحقوق بوعي وإنصاف”.
“إشكالية النسب“
وفي سياق النقاش العمومي المفتوح حول تعديلات مدونة الأسرة، وضرورة مقاربتها من منظور تقاطعي جديد يراعي التحولات المجتمعية والقيمية التي عرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين، تنظم مجموعة “نساء شابات من أجل الديمقراطية” ندوة فكرية يوم الجمعة 23 ماي 2025، تحت عنوان: “إشكالية النسب في مدونة الأسرة – نحو قراءة جديدة للنصوص الدينية والقانونية”.
وجاء في بلاغ صادر عن المجموعة أن هذه الندوة تنطلق من قناعة راسخة بأن مراجعة مدونة الأسرة ليست مجرد ورش تقني أو قانوني، بل هي لحظة فكرية وسياسية بامتياز، تتطلب مساءلة عميقة للبنيات الرمزية التي تُؤطر مفاهيم مثل الأسرة، والنسب، والشرعية، والكرامة، “خاصة في ظل التوتر القائم بين المرجعية الدينية والمعايير الكونية لحقوق الإنسان”.
وسجل البلاغ أن رفض اعتماد الخبرة الجينية لإثبات النسب، رغم التطور العلمي والتشريعي الحاصل، “شكل صدمة في الأوساط التقدمية، لما يحمله من تجريد للأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج من أحد حقوقهم الأساسية”، وهو الحق في النسب.
وأكدت المجموعة في هذا السياق أن النسب لا يُختزل في علاقة بيولوجية فقط، بل هو بنية قانونية واجتماعية تعكس اختيارات جماعية، وتعيد إنتاج أنماط السلطة والتراتبية داخل المجتمع.
وتهدف الندوة، بحسب الجهة المنظمة، إلى توفير فضاء للحوار النقدي والتفكير الجماعي، من خلال مساءلة التصورات السائدة حول النسب والأسرة، والانفتاح على مقاربات بديلة تستند إلى أدوات الفكر المقاصدي، والسوسيولوجيا النقدية، والفلسفة السياسية، والتحليل القانوني، مع إيلاء أهمية خاصة لأصوات الفاعلين الميدانيين وتجارب النساء في الواقع اليومي.
كما تسعى هذه المبادرة إلى بلورة تصور جديد لعدالة أسرية منصفة، تُراعي تحولات المجتمع المغربي، وتُعيد الاعتبار لقيم الكرامة الإنسانية، وحقوق النساء والأطفال، في إطار قراءة متجددة ومتوازنة للنصوص الدينية والقانونية.