story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الهمة ليس من الدولة العميقة!

ص ص

في البداية، حين كنت أسمع أو أقرأ شخصا ما يقول إن فلانا أو فلانا من الدولة العميقة، كنت أكتفي بالابتسام وأحيانا بالتعجب وأمضي إلى حال سبيلي. لكن حين كثر الكلام مؤخراً عن الدولة العميقة، قلت لنفسي إن سوء الفهم هذا سيصبح مضرا بالصحة وصار بالتالي ضروريا فتح النقاش حول ما نعنيه بالدولة العميقة …

فؤاد عالي الهمة رجل دولة يقدم خدمات جليلة لوطنه، لكنه ليس من الدولة العميقة كما قد يظن أو يصرح به البعض. على الأقل ليس أكثر منا جميعا.

صحيح أنه جزء من الدولة. والدولة ليست هي الدولة العميقة. فوجود كلمة دولة فيهما لا يعني تطابقهما. الدولة هي ما يبقى بعد أن تسقط الحكومات، كما نرى كل يوم في الانتخابات، وحتى في الانقلابات. أما الدولة العميقة فهي ما يبقى بعدما تسقط الدولة نفسها، كما رأينا خلال الربيع العربي.

سقطت الدولة في مصر وفي تونس وفي ليبيا، وسقطت هنالك في جيورجيا وفي أوكرانيا… بل وسقطت الدولة حتى في الاتحاد السوفييتي وغيرها ولكن الدولة العميقة في كل هذه البلدان لم تسقط ولن تسقط ربما أبدا.

بل أعادت الدولة العميقة بناء الدولة بنفس الجينات أحيانا وببعض التعديلات الجينية أحيانا أخرى. الدولة العميقة لا تسقط إلا استثناء في التاريخ، كما حدث بنسبة ما في الثورة الفرنسية مثلا، وليست كل الثورات قادرة على إسقاط الدولة العميقة …

إن الدولة العميقة هي ذلك الجذع المشترك أو تلك الجذور الضاربة في أعماق الأرض. والأرض هنا وجدان الشعوب وذاكرتها.

ولذلك هي لا تموت، بل تعيد الدولة العميقة استنبات الدولة كشجرة، مرارا وتكرارا بدون كلل ولا ملل. أما الحكومات فليست سوى تلك الأوراق والأزهار والثمار التي تفرزها الشجرة والتي تتساقط بمجرد انتهاء فصلها لتترك مكانها لأوراق أخرى وثمار أخرى… لذلك فالدولة العميقة هي نحن جميعا وتسكن في كل واحد منا.

الدولة العميقة ليست جهازا أمنيا، وليست لوبيا اقتصاديا، وليست تكتلا سياسيا، وليست طبقة اجتماعية. لكنها كل ذلك، وفي كل ذلك في نفس الوقت. إنها كائن ذبذبي يخترق كل الجدران وكل العتمات وكل المستويات.

الدولة العميقة هي نحن جميعا بنسب مختلفة. وهي مستمرة ما استمرّينا. ولا يمكن محاربتها. لأنها ليست في الخارج بل في دواخلنا جميعا. وتتغير فقط بتغيّرنا.

الدولة العميقة ليست شخصا أو مجموعة أشخاص. يذهب الأشخاص دائما وفي كل يوم وكل مكان وتبقى الدولة العميقة. نعم قد تختفي الدولة باختفاء الأشخاص وقد ذكرنا أمثلة كثيرة على ذلك، لكن الدولة العميقة تبقى حية كامنة، وتعيد بناء الدولة من جديد، كما قلنا بنفس الجينات أحيانا كثيرة، وبتعديلات جينية قد تزيد أو تنقص أحيانا أخرى .

لذلك فإن السيد فؤاد عالي الهمة، وإن كان ركنا مهما من أركان الدولة، لكنه ليس ركنا من الدولة العميقة أكثر منا، ولا يمثل الدولة العميقة أكثر منا. إنه مثلنا جميعا جزء منها ذهنيا ونفسيا وثقافيا .

لذلك لا يمكن أن ننتقد الدولة العميقة ونطالبها بالتطور والتغيير والارتقاء بينما نظل نحن كما كنا دون تغيير. صحيح أن الدولة العميقة أيضا تتطور، لكن تطورها ليس سوى مجموع ما ينجزه كل واحد منا من تغيير وتطوير وارتقاء بوعيه الفردي وما يساهم به في تغيير الوعي الجماعي .

الكسكس جزء من الدولة العميقة، والشاي بالنعناع جزء من الدولة العميقة، وفهمنا لسلطة الأب ورضى الوالدين جزء من الدولة العميقة، و”الشيخات” أيضا جزء من الدولة العميقة …

الدولة العميقة هي تلك السلطة التي تحمينا وتخيفنا في نفس الوقت، نحبها ونكرهها في نفس الوقت وتتحكم في نمط تفكيرنا وسلوكنا الفرديين والجماعيين .

الدولة العميقة هي مجموع تلك القيم التي نشترك فيها جميعا. سيئة كانت أو طيبة. لكنها تملي علينا من داخل اللاوعي كيف يجب أن نتصرف. لذلك فإن من ينتج هذه القيم هو الذي يتحكم في هوية الدولة العميقة.

وفي المغرب، كما أوضح ذلك الكاتب محمد الطوزي، فإن القيم ينتجها الملك والملكية والقصر الملكي.. الملكية هي معيار السلوك الجماعي.. ما يفعله الملك وما يقوله هو الصواب وما يتجنبه هو الخطأ.. لذلك اختلط على الناس، بمن فيهم المثقفون، الفرق بين الدولة والدولة العميقة.

كما أن الدولة العميقة ليست حكرا على بلد دون آخر، ولا على نظام سياسي دون آخر. وليست صفة خاصة بالبلدان الديكتاتورية كما يعتقد البعض، ممن يربطون بين وجود الدولة العميقة وشكل النظام السياسي. للدول الديمقراطية أيضا دولتها العميقة. للملكيات كما للجمهوريات دولتها العميقة. الدولة العميقة أكبر منا جميعا، من حيث السن، وأوسع منا تجربة، وأرحب منا أفقا، وأكثر منا قوة بملايين المرات.

لذلك لا يمكن، وليس حتى من المستحب محاربة الدولة العميقة، لأن الأمر يشبه محاربة صورتك في المرآة. حيث تنكسر المرآة وتظل أنت على حالك دون تغيير، لترى نفس صورتك على مرآة أخرى، مع فرق “بسيط ” هو ما أحدثته في نفسك من جروح.

بقي أن أبوح لكم بسرّ: أنا أيضا من الدولة العميقة.