مسؤولية النخبة
كتب المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي — الذي يعتبر أهم مثقف في العالم — مقالته الشهيرة “مسؤولية المثقفين” سنة 1967، عندما كانت أمريكا منخرطة في حرب طاحنة في فيتنام. المقالة نقلت تشومسكي من عالم لسانيات طور مجاله حتى اعتُبِر مؤسسا لعلم اللسانيات الحديث، (نقلته) إلى أحد قادة الحركة الثقافية المناهضة للحرب على فيتنام. يقول تشومسكي إن لدى المثقفين امتيازات كثيرة تفرض عليهم مسؤوليات تجاه المجتمعات التي يعيشون فيها، خصوصا صدح الحقيقة أمام أصحاب السلطة Speak Truth To Power!
أتذكر هذه المقالة كلما رأيت الوضعية التي وصل إليها النقاش العمومي في المغرب. أقول وصل إليها ولا أقول التي عليها حال النقاش العمومي في المغرب لأنني أعرف أن “ميدان” النقاش العمومي لم يكن دائما بهذا الضيق. ما يطلق عليه في عالم الصحافة overton window (أو كل الأفكار والسياسات التي يسمح المجتمع بتداولها في كل مرحلة) في بداية الاستقلال يجب أن يكون الميزان الذي يقاس عليه مستوى النقاش العمومي وما هو مسموح به دون مخافة الانتقام. فتلك المرحلة عرفت فيضا من تبادل الأفكار لا يمكن تخليها اليوم. بل حتى في بداية الألفية الثانية، كان ميدان الأفكار أكثر رحابة والدولة أكثر تقبلا للنقد.
في مغرب اليوم، الذي لا يختلف اثنان أن انتقاله الديمقراطي تجمد على الأقل — إن لم نقل تراجع —
هناك مجموعات لا يمكن للمغرب أن يعيد الحياة إلى قطار تنميته بدونهم، وعلى كل مجموعة منهم أن تتحمل جزءا من المسؤولية. هذه المجموعات تنعم بامتيازات مجتمعية أهمها مكانتهم الاعتبارية ومستوى قربهم من السلطة. لذلك فهذه المجموعات هي أول من يجب أن يتحمل المسؤولية، قبل مطالبتها للشعب المغلوب على أمره بتحمل المسؤولية.
أولى هذه المجموعات تضم الأساتذة الجامعيين، لما لهم من تأثير على المجتمع برمته. الأستاذ (ة) الجامعي يتمتع بمكانة اعتبارية، لديه رصيد معرفي أكبر من الشخص العادي، يخبر دقيقا مجال تخصصه، ينتمي إلى طبقة اجتماعية مريحة، وشبكة علاقاته أكبر. بذلك فهو يستطيع الحديث بسلطة عن مجاله. كما أن لديه القدرة على التأثير على الطالب (ة) الجامعي: حثه على البحث العلمي، التفكير النقدي، العمل التطوعي، الحس المواطناتي. وهذه ليست أحلاما، بل هناك أساتذة تتلمذوا على أيديهم يجسدون هذه القيم.
أعتبر أن المجموعة الثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي مجموعة الصحافة والإعلام والتواصل بشكل عام. في مغربي فجر الاستقلال وبداية الألفية الثانية، لعبت الصحافة والإعلام دورا محوريا في إيصال الأفكار إلى المجتمع وإشراكه في النقاش العمومي. وأجزم أن الصحافة المستقلة هي شريك أساسي في المسؤولية وصوت لابد منه في الانتقال الديمقراطي. لذلك يجب على الجسم الصحافي أن يتحمل مسؤوليته في إيصال صوت الشعب، خصوصا عبر صحافتي الحوار العمومي والاستقصاء.
أما المجموعة الأخيرة فهي جمعيات المجتمع المدني. من أكبر قناعاتي أنه لا يمكن لدولة أن تتطور بدون جيل كامل ينخرط في ملء الفراغ الذي يمكن أن تتركه بعض السياسات العمومية. بل حتى في الدول الأكثر ثراء، نجد انخراطا جبارا لمجتمعات المجتمع المدني لسد الفجوة. لذلك فأنا أعتبر أن جمعيات المجتمع المدني المستقلة، الشابة، وغير السياسية، التي تشتغل في شتى المجالات — لكن خصوصا في التعليم، الصحة، والأنشطة المدرة للدخل — فاعل من المستحيل أن يتقدم المغرب بدونه ويتحمل مسؤولية كذلك.
أخيرا، لدي اليقين أن هذه التجربة الصحافية الجديدة ستتحمل مسؤوليتها، وستكون لسان حال الواقع، وصوت الشارع، ومنبرا ينضم إلى دينامية التحول الديمقراطي في البلد.