story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مخطط المغرب الأفسد

ص ص

ينطبق على المغاربة هذه الأيام مثل “ما قدو الفيل زادوه الفيلة”.
فبعدما أطلعتنا الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أو ذكّرتنا بالأحرى، بواقعنا المرير مع الفساد المنتشر في جميع أوصال الدولة والمجتمع؛ وبدل أن تخرج الحكومة لتخفف من هول ما نزل وتفسّر وتبرّر وتبشّر، فاجأتنا عقب اجتماع مجلسها أمس الخميس 10 أكتوبر 2024، بهجمة هوجاء على الهيئة.
السبب الذي جعل مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، يحوّل منصة ندوته الصحافية الأسبوعية إلى منصة ل”التشيار” على هيئة محمد بشير الراشدي، هو تصريحات هذا الأخير خلال ندوة عرض تقريره السنوي الجديد، والتي قال فيها إن اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد لم تجتمع إلا مرتين خلال عشر سنوات.
بايتاس قال بأسلوب “قليان السم” الذي يغلب على طريقته في التفاعل، إنه لا يجب لأي أحد أن يعتقد أنه يحارب الفساد أكثر من أي طرف آخر، “هذه معركة نساهم فيها جميعا على قدر المساواة، السلطة التنفيذية والمؤسسات الدستورية الأخرى التي تشتغل على هذا الموضوع، وطبعا المؤسسة التي تحدثتم عليها”، في إشارة منه إلى الهيئة التي أشار إليها الصحافي صاحب السؤال.
وكما لو كان المغاربة صوتوا على الدستور ودفعوا الضرائب لتمويل إقامة المؤسسات كي يتفرجوا على ملاسنات لم تعد تقع حتى في حمّامات الأحياء الشعبية، هاجم بايتاس الهيئة، معتبرا أن اختصاصاتها تتضمن تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة العامة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة، ليتساءل: “أين هو المجهود الذي قامت به هذه المؤسسة في هذه المقتضيات المنصوص عليها بنص الدستور، ويكفي فقط أن نرجع للفصل 167 من الدستور وسنجد هذه الاختصاصات”.
وبطريقة من ينهي خصوماته بعبارة “جري طوالك”، قال بايتاس إن من يعرف الفساد وملفاته ومعطياته، يجب أن يذهب إلى القضاء لأنه المسؤول الوحيد على زجر ومحاسبة من يقوم بالفساد.
ودفع بايتاس في المقابل بإجراءين عدّهما من حصيلة الحكومة في مجال محاربة الفساد، وهما المتابعات القضائية التي قال إنها تعكس الحرص القوي للحكومة على متابعة أي مس بالمال العام، دون أن يخبرنا السيد بايتاس منذ متى كانت المتابعات من اختصاص الحكومة ولا متى قامت بالانقلاب على السلطة القضائية وسحبت منها هذه الوظيفة، ثم أضاف إجراء إصدار مرسوم خاص بالصفقات العمومية، تكفي العودة لاستطلاعات الرأي التي شملت المقاولين للوقوف على عدم تغييره واقع الحال في شيء.
كان بإمكان الناطق الرسمي باسم الحكومة أن يعفي نفسه ويعفينا جميعا من هذه “الجدبة” غير المبررة، لو أنه أجابنا على سؤال واحد، صحيح أن رئيس هيئة النزاهة طرحه، لكنه سؤال يشغلنا جميعا: لماذا لم تجتمع اللجنة الوطنية لمحاربة الفساد ولو لمرة واحدة في عهدة حكومة عزيز أخنوش؟
قصة هذه اللجنة تعود إلى ما بعد اعتماد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد نهاية العام 2015، حيث تقرّر إحداثها لتنسيق عمل كل من الحكومة والهيئة، إلى جانب مؤسسات أخرى، وصدر مرسوم يحدثها ويعتبر رئيس الحكومة رئيسا لها.
بعد ذلك جاء تعيين الملك لمحمد بشير الراشدي رئيسا للهيئة التي نص الدستور في الفصل 36 على إحداثها، وفصّل صلاحياتها في الفصل 167. ورافق هذا التعيين ضوء أخضر بإعادة إصدار القانون المنظم للهيئة بعدما تبيّن أن القانون الذي صدر عام 2015 قد وُلد ميتا ولا يسمح للهيئة بممارسة صلاحياتها الدستورية، وصدر هذا القانون الجديد بعد أكثر من عامين.
وفي انتظار مراجعة المرسوم الخاص باللجنة الوطنية لمحاربة الفساد، لملاءمته مع القانون الجديد، قام طيّب الذكر، رئيس الحكومة السابق سعد اللدين العثماني بجمع اللجنة مرتين، في 2018 و2019. ولولا جائحة كورونا الذي حلّت في بداية 2020، لربما كان المرسوم الجديد الخاص باللجنة قد صدر، وتواصل العمل بشكل طبيعي، في اتجاه التخفيف من أعراض جائحة الفساد.
في العام 2021 ستنظم انتخابات جديدة قلبت المشهد السياسي المغربي، رأسا على عقب، وجرت اتصالات بين رئيس الحكومة الجديد، عزيز أخنوش، ورئيس الهيئة محمد بشير الراشدي، اتسمت بطابع إيجابي وأسفرت عن خطوات عملية من قبيل التشاور حول مشروع قانون خاص بمحاربة تضارب المصالح، والتقدم في مشروع قانون خاص بالتصريح الإجباري بالممتلكات… لتتوقّف هذه الدينامية فجأة ويحتفي هذا التنسيق، وتمتنع الحكومة عن إصدار المرسوم الجديد الخاص باللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، رغم التوصل إلى صيغة نهائية له قبل أكثر من عام ونصف.
كانت الصيغة المتّفق عليها تنص على إبقاء رئيس الحكومة على رأس اللجنة، مع وضع رئيس الهيئة إلى جانبه، أي أننا كنا في منطق التعاون بين السلطات الذي نص عليه الدستور، قبل أن يتجمّد المسار وتختفي الحكومة عن المشهد إلى غاية خرجة بايتاس الأخيرة.
هل تريد الحكومة أن تعرف كيف نفهم هذا المسار؟ وكيف نؤوله وفقا لما هو متعارف عليه في أعراف تدبير شؤون الدولة؟
إن ما أقدمت عليه الحكومة يعني شيئا واحدا: مسايرتها في بداية ولايتها لمسلسل تفعيل الاستراتيجية الوطنية المحاربة الفساد، وتفاعلها الإيجابي مع الهيئة، كان من منطلق ربح الوقت والبحث عن ضوء أخضر لإغلاق هذا المسار.
في سياق تمسّح رئيس الحكومة الأعمى بأعتاب المؤسسة الملكية، وإصراره على ربط كل خطوة يقوم بها بالتوجيهات والاستراتيجيات والمخططات الملكية، فهو بسلوكه هذا تجاه مؤسسة دستورية من حجم هيئة محاربة الرشوة، وإمعانه في إقبار جهودها وتبديد ما تحقّق منذ مصادقة المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد عام 2003… يريدنا أن نفهم أنه يطبّق توجهات واختيارات ملكية، في الوقت الذي يخبرنا محمد بشير الراشدي أن الملك نوّه بمساره النضالي لحظة تعيينه، وأقرّه في مسعاه لتغيير القانون لمنح الهيئة صلاحيات أكبر…
أكثر من ذلك، تأتي تصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة، المستهزئة والمستخفة بمؤسسة دستورية وبأدوارها، لتسقط الدستور نفسه، وترفض تطبيق مقتضياته التي نصت على إحداث الهيئة ومنحتها اختصاصات لا سبيل إلى ممارستها بدون انخراط الحكومة وتعاونها.
وإذا وضعنا كل هذا في سياق سحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع، وتضمين مشروع قانون المسطرة الجنائية مقتضيات تمنع الجمعيات الحقوقية من التبليغ عن الفساد… وباستحضار ما جرى مع مؤسسة دستورية أخرى هي مجلس المنافسة، والحروب التي فتحتها الحكومة مع مؤسسات مثل بنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط، نجد أنفسنا في قلب مسار لتنفيذ مخطط المغرب الأفسد.. على منوال مخطط المغرب الأخضر الذي انتهي بنا إلى استيراد اللحوم والخرفان وزيت الزيتون…