story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

محاكمة زلزال الحوز

ص ص

بما أن فصل الشتاء والثلوج قد حلّ بنا للمرة الثانية، وجزء من أسرتنا الممتدة يعيش في الخيام ببردها وعرائها؛ وبما أن الحكومة تصرّ على أنها غير مذنبة، وبريئة براءة الذئب مما يجري لضحايا زلزال الأطلس الكبير من معاناة لم يعشها سوى اللاجئون السوريون والمهجّرون الفلسطينيون داخل قطاع غزة، تعالوا نعقد محكمة استثنائية لهذا الزلزال.

باسم عدالة السماء تنعقد اليوم محكمة رمزية لتحاكم الزلزال، هذا الفاعل الذي قلب سكون المغرب المنسي رأسا على عقب، وأعاد تشكيل جبال الأطلس وقراها، وزحزح مناجم الذهب والفضة عن مكانها.

بعض المغرضين يقيمون ربطا غير مفهوم بين الزلزال وعمليات الحفر والتنقيب عن المعادن بين جبال المنطقة.

تم استدعاؤهم للمثول أمام المحكمة وتقديم الشهادة لكن تبيّن أهم في حالة فرار من الظلم.

باسم عدالة السماء استدعي السيد زلزال إلى منصة الاتهام.
ها هو ذا يدخل المحكمة بصمت مريب، لا صوت له سوى ارتعاشات لا يمكن رؤيتها إلا عبر أجهزة الرصد ووفق سلّم ريختر (الله يستر).

يبدو القاضي وكأنه في معركة داخلية بين هيبته المفترضة ورغبته الجامحة في الانفجار ضحكا.

كيف يحافظ على ملامح الجدّية وهو على وشك استنطاق “كائن جيولوجي” خرج من باطن الأرض؟

يتنحنح القاضي ويعدّل بدلته الرسمية ويمسك مطرقته، ثم يطلق السؤال المصيري بنبرة ملؤها الاتهام: ماذا تقول في المنسوب إليك؟

لم يردّ الزلزال. فقد كان منشغلا بالتفكير في كلمته الختامية، ويبحث عن مبرر لظلمه التاريخي كقوة طبيعية عمياء لا تعرف غير التصدّعات.

لم يتحمّل القاضي هذا الصمت المزلزل.

أشار إلى كاتب الضبط، الذي دوّن بشكل فوري: “المتهم يرفض الحديث”. بينما كان يشكر الله في قرارة نفسه أن الماثل أمام المحكمة لم يفتح فمه ليحوّل المحكمة إلى بؤرة زلزالية.

كان الصمت دليلا دامغا على ارتكاب الذنب. الصمت هنا ليس حكمة ولا حقا دستوريا. للطبيعة دستورها الخاص المختلف عن دستور البشر.

بعد عجز الزلزال عن توكيل هيئة دفاع، جاء المحامي الذي عينته المحكمة في إطار المساعدة القضائية، خلع نظارته ببطء وبدأ مرافعته:

“سيدي القاضي، موكلي لم ينكر المنسوب إليه، لكننا بحاجة إلى النظر في الأسباب الجذرية… هل تأكدنا من الضغط التكتوني؟ أم أننا فقط نلوم الضحية الأولى، الأرض؟”.

ثم عرض المحققون أمام المحكمة أدلة دامغة: خطوط الصدع الممتدة عبر الأرض، الساعات المتوقفة عند لحظة الكارثة، وخرائط الدمار، والجثث التي ظلّت عالقة تحت التراب الذي بنى به البعض ما اعتقده قبرا للحياة، فاستحال قبرا للممات.

“هذه الخطوط، سيدي القاضي، ليست مجرد شروخ في الأرض، بل تصدّعات في كرامة الطبيعة!” قال المدّعي العام، ثم أضاف: “انظروا إلي الخرائط، إنها توقيع شخصي من المتهم، عليه بصماته الواضحة كما تقول الخبرة الجيولوجية، وكأنه يريد أن يخلد فعلته في أرشيف الجريمة”.

في ركن بعيد من القاعة كانت تجلس الصفائح التكتونية التي كانت متواطئة صامتة، وكأنها تلعب دور الشريك الذي لا يعترف.

سيحين دورها وستمثل يوما أمام القضاء أو القدر.

ها قد جاء دور الحكومة لتأخذ مكانها في قفص الشهود.

كفكفت السيدة حكومة دموعها أمام المحكمة وأخبرت القاضي كيف وجدت نفسها في مواجهة كارثة غير مسبوقة، حيث تعرضت لضغوط هائلة وإحراجات أمام الرأي العام، وسيل من عروض المساعدات الخارجية التي اضطرّها كبرياؤها المتضخّم من قبولها.

تحدث محامو الحكومة عن خطط طوارئ “جيدة نظريا”، لكنها دفنت في أدراج لم تُفتح منذ سنوات.

وفي لحظة درامية، رفعت الحكومة ملفا مهترئا مكتوبا عليه بخط باهت: “خطة لمواجهة الكوارث الطبيعية”.

لم تتمالك الحكومة نفسها وقاطعت دفاعها قائلة: “لقد حاولنا، ولكن الزلزال كان أسرع منا”. فيما الجمهور لم يتمالك نفسه، وانخرط في موجة من التصفيق المتردد بين التعاطف والازدراء.

أما السكان، الضحايا، المكلومون، المشرّدون، فقد تميزت شهاداتهم بالبساطة والصراحة الموجعة.

أحد الشهود، طفل دون العاشرة، قال: “عندما اهتزت الأرض، ظننت أنني أحلم، ولكن عندما رأيت ألعابي تحت الأنقاض، أدركت أن الحلم قد انتهى”.

تحدثت امرأة مسنة عن ليلة قضتها تحت سماء مليئة بالنجوم، وقالت بأمازيغية أصيلة: “لقد كانت ليلة رومانسية جدا، لولا البرد الذي كاد يقتلني”.

الطبيعة، التي لطالما كانت ملاذا، بدت وكأنها انقلبت على الجميع، حضرت بكامل تبرّجها الذي يميت الأجساد بردا، مما جعل المحكمة تضيف تهمة جديدة للزلزال: “الخيانة العاطفية”، والشريك ليس سوى الطبيعة ذات العيون السيّالة.

بعد مداولات مطوّلة واستعراض الأدلة، أصدرت المحكمة حكمها النهائي.

أدين الزلزال بتهم القتل العمد، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، وتعريض السلم العام للخطر، وإهانة السلطات أثناء تقاعسها عن القيام بمهامها.

سيقضي الزلزال بقية حياته في سجن مؤبد في باطن الأرض… ابن المحظوظة، للتوّ صادقنا رسميا على عدم تنفيذ عقوبة الإعدام.

قضى الحكم بإلزام المجتمعين الدولي والمحلي بإعادة بناء ما دُمّر، فزلزال من هذا الحجم لا يكمن إلا أن يكون مؤامرة كونية، عابرة للحدود وفوق وطنية.

كما قررت المحكمة منح الحكومة تعويضا ماديا وآخر معنويا لتشجيعها على تطوير قدراتها وابتكار حلول مستدامة لإخفاء عجزها وتقصيرها، تجنبها الإحراج أمام أزمات المستقبل. على أن تستثمر هذا التعويض في خطة طوارئ عنوانها: كيف تخرج من الكوارث مثل الشمعة من العجين.

هكذا طويت صفحة المحاكمة التاريخية التي شهدت أول إدانة رسمية للزلزال. خرج “مدانا” نعم، لكنه غير مكترث، فقد كان يعلم أن هذا العالم سيتناسى أمره قريبا، مثل كل جريمة تُغلف بالأرقام والإحصائيات.

وخرجت الصفائح التكتونية من القاعة ببطء، تجر أذيال الصمت. لم تلتفت خلفها، ربما خشية أن تصطدم بنظرات الأرض الغاضبة.

أما الحكومة، فقد رفعت رأسها عاليا بعد الحكم، وأعلنت بفخر عن تشكيل لجنة جديدة لإعداد “خطة الاستعداد للكوارث”.

خطة ستُحفظ بعناية بجانب خطط سابقة، في درج الأرشيف الوطني الذي لن يفتح إلا بعد الكارثة التالية.

خارج المحكمة كان الناس يجمعون ما تبقى من بيوتهم وأحلامهم، يتساءلون بصمت من سيكون المتهم القادم: إعصار؟ أم فيضان؟ أم ربما نحن الذين نتفرّج على مسرحية الخراب؟