story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ماء الموت

ص ص

حتى ساعات الصباح الأولى من هذا اليوم، الأربعاء 5 يونيو 2024، خلّف مشروب أطلق عليه إعلاميا اسم “الماحيا”، وتناوله العشرات من الأشخاص في منطقة سيدي علال التازي غرب المغرب، حصيلة مفجعة قوامها 15 قتيلا وأزيد من سبعين مصابا بعضهم مهدد بعاهات دائمة على رأسها العمى والفشل الكلوي…

حصيلة أثقل من مخلفات بعض الزلازل والفيضانات، وأكبر مما يمكن أن تسقطه بعض العمليات الإرهابية والحوادث المميتة لبعض الحافلات.

المصيبة أن من بين الضحايا أطفال، أحدهم حسب الشهادات التي استقتها الصحافة من أقارب الضحايا بالكاد بلغ الثالثة عشرة من العمر، كما توجد من بين الضحايا سيّدتان، إلى جانب “الكرّاب” نفسه، أي الشخص الذي تولى “إنتاج” وترويج المشروب السام.

وأمام كارثة من هذا الحجم، يفترض أن تعلن الطوارئ وتنكّس الأعلام وتفتح التحقيقات ويستقيل المسؤولون، لكنه عندنا مجرّد خبر منوّع، كأنها أرض خلاء لا قوانين ولا مسؤوليات ولا ضمانات.

يتعلّق الأمر بإحدى المجالات التي تعكس حالة المغرب والإنسان المغربي: منطقة غنية فلاحيا وصناعيا وطبيعيا، لكن ساكنتها فقيرة ومهمشة وتموت بسبب ترويج مشروب سام على نطاق واسع وعجز منظومة الإسعاف والعلاج الطبّيين عن منع وقوع الكارثة.

القصة كما يرويها أصدقاء وجيران الضحايا مجرّد انحراف استثنائي في سلوك دارج ومعتاد في المنطقة، حيث يتم تهريب كميات من مادة كحولية مخصصة لاستعمالات صناعية وطبية وصيدلية دقيقة، من أحد مصانع المنطقة، ثم يتم ترويج براميل المحلول المهرّب بالتقسيط، وذلك بسعر يتراوح بين 80 و100 درهم للتر الواحد، على أن يقوم المستهلك بخلط كمية قليلة من هذا الكحول مع الماء أو أحد المشروبات الغازية، ليصنع لنفسه ما تسميه الفئات الشعبية هنا ب”الماحيا” وها هو بماء حياة، بل هو ماء الموت القاطع.

مشروب الماحيا المغربي “الأصيل” هو “ماركة” محلية من الخمور التي اشتهرت في تاريخ المغرب، وارتبطت أساسا بالمغاربة اليهود، الذين تفنّنوا في تقطير بعض المواد مثل التين المجفف والتمر، ليصنعوا مشروبا مسكرا، أي مضرا بالصحة وبالسلوك الإنساني هذا صحيح، لكنه ليس ساما أو قاتلا كما هو الحال مع ما تناوله ضحايا فاجعة سيدي علال التازي.

يتعلّق الأمر حسب شهادات المكلومين وبعض من أبناء المنطقة، بمادة كحولية طبية تسمى ال”سبيرتو” وإن كانوا ينطقونها شفويا “سبيرو”، والتي يقوم أحد مصانع المنطقة بإنتاجها وتوجيهها للتصدير، لتستعمل في بعض الصناعات مثل الصيدلة وإنتاج العطور وبعض المركبات الكيماوية الأخرى…

ولا تعتبر هذه المادة سامة في حد ذاتها، بل إنها تستعمل أيضا في التعقيم، خاصة في المختبرات، إلا أنها تصبح بعد خلطها بمواد أخرى، مادة شديدة السمية وتسبب الموت أو بعض العاهات الدائمة، على رأسها فقدان البصر بشكل مؤقت أو دائم.

أبناء منطقة سيدي علال التازي كانوا يعمدون حسب الشهادات التي تناقلتها الصحف والصفحات الإخبارية، إلى خلط ربع لتر من هذه المادة مع لتر من أحد المشروبات الغازية، وهو ما يؤدى إلى إنتاج محلول جديد، يطلق عليه “الماحيا” بينما هو مركب كيميائي يتحوّل بسهولة إلى مادة قاتلة، وهو ما حدث نهاية الأسبوع الماضي، حين تناول العشرات من الأشخاص مشروبا يرجّح أن “الكراب” نفسه هو الذي قام بخلطه ثم بيعه بالتقسيط، وجعلنا نستيقظ على وقع كارثة مهولة.

من سابع المستحيلات ألا تكون السلطات بمختلف تشكيلاتها وأنواعها على علم بهذه الممارسة الشائعة في المنطقة، خاصة أن المصنع قديم جدا في المنطقة وبعض المصادر تعيد نشأته إلى حقبة الاستعمار.

ووقوع مثل هذه الكارثة يحيلنا بالضرورة على شبهات الفساد والارتشاء والتواطؤ، بل ويفتح ملفا كبيرا مسكوتا عنه، هو حالة “عين ميكة” التي تقوم بها السلطات في بعض الحالات، تاركة المواطنين لمصيرهم كما لو أن الدول لم توجد لحماية الناس من الخطر، بما في ذلك الذي يمكن أن يقعوا فيه بما تصنع أيديهم.

حتى حجة “ما صنعت أيديهم” لا تنطبق على هذه الكارثة، لأن الأمر لا يتعلّق بمشروب “الماحيا” التقليدي الذي يعمد البعض إلي تحضيره بشكل ذاتي في البيوت الخاصة، بل نحن أمام مادة كحولية تنتج وتخزّن في منشأة صناعية، ويتم تهريبها بشكل مألوف ومنتظم لترويجها على نطاق واسع.

أين هي أعين السلطة التي لا تغفل عن صغيرة ولا كبيرة؟ أين هي القدرات الأمنية والاستخباراتية التي تمكّننا من تفكيك الخلايا الإرهابية قبل حتى أن تشرع في تنفيذ ما تفكّر فيه من أعمال تخريبية؟ هل يعقل أننا عجزنا عن رصد وتوثيق ممارسة خطيرة صحيا واجتماعيا وأمنيا من قبيل تهريب وترويج مواد سامة؟

التغاضي عن ممارسات غير قانونية في نقل العمال واستغلال حافلات غير مراقبة وغير مرخّصة، هو الذي يؤدى بين الفينة والأخرى إلى حوادث تحصد عشرات الأرواح. وتجاهل كميات هائلة من المأكولات والأطعمة من خضر وفواكه ولحوم، أنتجت خارج مسار الإنتاج المراقب، هو الذي يسبب العديد من الأمراض والعاهات، وغض الطرف عن أحياء ومناطق ودواوير كاملة يتم فيها ترويج المخدرات والقرقوبي و”الماحيا”، هو ما ينتج ظواهر إجرامية وانحرافات وجرائم، وفي بعض الحالات مآس مثل ما حصل في سيدي علال التازي.

الكارثة وإن كانت قد حصلت و”للي كان كان”، لا ينبغي أن تمرّ مرور الكرام، بل لابد من فتح ملف هذه التواطؤات المسكوت عنها، بمبرر “النظام العام” والاستجابة لميولات ورغبات المجتمع. علينا أن نقطع مع هذه الازدواجية في المعايير والنفاق الذي يتحوّل إلى قوانين متضاربة تحت سلطة الدولة نفسها.

إءا كنا سنرخّص للناس بترويج وتناول الخمور، فينبغي لنا أن نواجه هذا الاختيار بشجاعة ونضع له قواعد التطبيق السليم مع الحفاظ على الصحة العامة وحماية القاصرين وضمان شفافية السوق ومراقبة المنتجات طيلة مسار إنتاجها وتسويقها.

أما أن نواصل العمل بقوانين تنص على قواعد ثم نطبّق ما يخالفها في الواقع، فهذا يعني أننا نوفر كل الشروط الضرورية لوقوع كوارث مماثلة.