مؤشرات الفساد في المغرب.. تراجع مستمر وانعكاسات خطيرة على الاقتصاد

كشفت منظمة الشفافية العالمية “ترنسبرنسي” مطلع الأسبوع الجاري، عن تقريرها السنوي الجديد المتعلق بإدراك الفساد برسم سنة 2024 المنقضية، معلنة تراجع المغرب بواقع مركزين عن تصينف سنة 2023، منتقلا من الرتبة 97 إلى الرتبة 99 عالميا من أصل 180 دولة شملها المؤشر.
وأوضحت المنظمة في تقريرها الذي تنشره سنويا، أن المغرب حقق معدل 37/100، متراجعا بواقع نقطة واحدة عن معدل سنة 2023، حيث يستخدم التقرير مقياسًا من صفر إلى 100، كلما اقترب من الصفر كلما ارتفعت نسبة الفساد، بينما تشير النقطة 100 إلى النزاهة التامة.
ما الصورة التي رسمها تقرير ترانسبارنسي حول الفساد بالمغرب ؟
تظهر معطيات تقرير منظمة “ترانسبرنسي” لسنة 2024، استمرار المغرب في وتيرة التراجع على مستوى مؤشر مدركات الفساد منذ سنة 2018، حين حقق المغرب أفضل نتيجة له بمعدل 43/100، ما جعله في المركز 73، قبل أن يأخذ المعدل منحى تنازليًا ليصل إلى معدل 37 هذه السنة عند المركز 99 عالميًا، ما يعني فقدان المغرب لـ26 مركزًا في 6 سنوات فقط.
وبهذا المعدل، فإن المغرب يظل تحت المعدل العالمي لمؤشر مدركات الفساد، والذي استمر عند 43 دون تغيير لسنوات، كما أنه حافظ على تصنيفه ضمن الدول العربية بحلوله في المرتبة الـ8، بعد دول البحرين والأردن والكويت، وتونس، في حين تفوق على الجزائر ومصر وموريتانيا.
ما هو مؤشر ترانسبرنسي لإدراك الفساد؟
أدى الاهتمام المتزايد بقياس مدى انتشار الفساد إلى ظهور العديد من المؤشرات، حيث طوّرت عدة مؤسسات معايير ونماذج لتصنيف الدول وفقًا لمستويات الفساد، ويعد مؤشر مدركات الفساد (CPI)، الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية سنويًا، الأكثر شهرة في هذا المجال، مما جعل المنظمة، حسب العديد من الدراسات، المرجع الأبرز عالميًا في جمع وتوزيع المعلومات المتعلقة بالفساد.
ويُقيّم مؤشر مدركات الفساد (CPI)، منذ سنة 1995، الدول حول العالم بناءً على مدى تصوّر فساد القطاع العام فيها، وذلك من خلال استخدام بيانات مأخوذة من 7 مصادر خارجية (في حالة المغرب)، تشمل بيانات ينتجها البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى شركات استشارية خاصة وشركات تقييم المخاطر ومراكز أبحاث.
هل مؤشر ترانسبرنسي هو الوحيد في رصده لاستفحال الفساد؟
يُصدر البنك الدولي ما يعرف بمؤشرات الحوكمة العالمية (Worldwide Governance Indicators – WGI)، والتي تتضمن ستة مؤشرات فرعية، أحدها مخصص لقياس السيطرة على الفساد، وهو يعتبر حسب العديد من الدراسات ثاني أهم المؤشرات في قياس الفساد، ويعتمد منهجية مشابهة لمقياس منظمة “ترانسبرنسي”.
ومن خلال استقراء معطيات المغرب على مستوى هذا المؤشر، يظهر أن المغرب حصل على “تصنيف مئوي” قدره 33، وهو ما يعني أن المغرب أسوأ من 67% من دول العالم، وأفضل من 33% فقط، ما يشير إلى أن مستوى الفساد في المغرب يظل مرتفعًا بشكل كبير.
بعيدًا عن المؤشرات العلمية، ومن خلال استقرائه لآراء المغاربة، كشف تقرير شبكة “الباروميتر العربي” لسنة 2024 عن استمرار مشكل الفساد كمشكلة مقلقة للغالبية العظمى من المغاربة، حيث يرى 74 بالمائة منهم أن الفساد منتشر في مؤسسات الدولة بدرجة كبيرة أو متوسطة، مبرزًا أن هذه النسبة ظلت مستقرة منذ نتائج سنة 2016.
وفي ظل استفحال الفساد، سجل التقرير لجوء المواطنين إلى بعض الأساليب كالوساطة والرشوة لقضاء أغراضهم، موضحًا أن الثلثين أقروا أنهم يستعينون بالواسطة (65 بالمئة) أو الرشوة (66 بالمئة) للحصول على وظيفة، في حين تقول نسبة أقل قليلاً إنهم يستخدمون الواسطة (63 بالمئة) أو الرشوة (62 بالمئة) لاستصدار أوراق رسمية من الهيئات الحكومية.
من جانبها، أشارت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومكافحتها، ضمن تقريرها السنوي إلى الوضعية “غير المرضية” في مجال محاربة الفساد، مسجلة ضعف التفاعل الحكومي مع توصياتها، وعدم عقد الحكومة لاجتماع لجنة مكافحة الفساد، والتي لم تجتمع إلا مرتين في عشر سنوات، في الوقت الذي ينص القانون على ضرورة اجتماعها مرتين كل سنة.
كما أوضحت الهيئة أن الفساد يكلف المغرب سنويًا من 3.5 إلى 6 في المئة من ناتجه الداخلي الخام، وهو ما يمثل 50 مليار درهم، في الوقت الذي يكلف 4 في المئة من الناتج الخام العالمي، أي ما يعادل 2000 مليار دولار.
ومن خلال استقائها لآراء المقاولات المغربية، أفادت الهيئة أن 68 في المئة من المقاولات تعتبر أن الفساد شائع جدًا وواسع الانتشار بالمغرب، مبرزًا تصريح أكثر من 23 في المئة من المقاولات بتعرضها لشكل من أشكال الفساد خلال العام الماضي.
كيف تتفاعل الحكومة مع تقارير الفساد؟
في الوقت الذي تفادت فيه الحكومة التعليق على تراجع المغرب في تصنيف منظمة “ترانسبرنسي”، تفاعلت الحكومة مع تقرير هيئة النزاهة بانزعاج واضح، ظهر بشكل جلي من خلال تصريحات وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، استغرب من خلالها “تلويح” الهيئة بأرقام ضخمة لكلفة الفساد في المغرب، “دون توجيه أصابع الاتهام إلى أفراد معينين، أو دون تقديم معطيات تمكن من اعتقال المعنيين بعمليات الفساد”.
وأوضح الوزير أن “اتهام أي شخص بالفساد يعد جريمة يعاقب عليها القانون”، مشبهًا ذلك بالاتهام بالقتل، مضيفًا أن “اتهام أي جهة أو شخص، يشترط فيه تحديد العديد من المعطيات حول الزمان والمكان والكيفية”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الأمن الوطني يقوم بواجبه وأن النيابة العامة تتابع العديد من الأشخاص بتهم الفساد.
الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، قال إن التراشق بالاتهامات أو تحميل المسؤولية لطرف معين و”الشيطنة” لن يسهم في تحقيق الأهداف المرجوة، مضيفًا أن الحكومة اعتمدت الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد 2016-2025، والتي تم تحقيق نحو 76% من أهدافها حتى الآن.
كيف يؤثر الفساد على اقتصاد المغرب؟
يرتبط الفساد بشكل كبير بمستوى الاقتصاد في أي دولة، ولا عجب أن تراجع المغرب إلى أدنى تصنيف له على مستوى الفساد تزامن أيضًا مع بلوغ معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها، وبلوغ حجم تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب لأدنى مستوى لها منذ 19 عامًا، بالإضافة إلى استقرار مؤشر ثقة الأسر عند أدنى مستوياته على الإطلاق، وكذا العديد من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى التي أخذت، هي الأخرى، منحى سلبيًا.
هذه المعطيات والأرقام تتوافق مع العديد من الدراسات العلمية التي كشفت العلاقة التي تجمع بين ارتفاع الفساد وتراجع المؤشرات الاقتصادية، وعلى رأسها النمو الاقتصادي، حيث لاحظت إحدى الدراسات أن الفجوة الكبيرة بين دولتين في مؤشر مدركات الفساد تنعكس بشكل مباشر على الفرق بينهما في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى مستوى تدفق الاستثمارات الأجنبية، فقد كشفت ورقة بحثية مماثلة أن زيادة بمقدار نقطة واحدة في مؤشر الفساد يؤدي إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي إلى الدولة بنسبة بحوالي 11٪، وهو معدل أعلى من الانخفاض الذي قد يتسبب به رفع الضريبة بـ1% على هذه الاستثمارات، والذي قد يصل إلى 3٪.
بمعنى آخر، فإن مكافحة الفساد يمكن أن تكون وسيلة أكثر فاعلية من تخفيض الضرائب لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث يرى المستثمرون أن الفساد يضيف مخاطر غير متوقعة و”تكاليف غير رسمية” قد لا يمكن التحكم فيها بسهولة.
وبناءً على هذه المعطيات، فمن الطبيعي أن تصل البطالة إلى مستويات مرتفعة، وذلك لارتباطها الوثيق بحجم تدفق الاستثمارات الخالقة لفرص الشغل، وهو ما تؤكده إحدى الدراسات التي نشر نتائجها صندوق النقد الدولي، والتي أكدت أيضًا ارتباط الفساد بحجم الاقتصاد غير المهيكل، حيث يضطر الكثير من الشباب إلى العمل في “اقتصاد الظل” نظرًا للمحسوبية التي تحكم ولوج الاقتصاد المهيكل، حسبما تقول الدراسة.