مؤسسات مغشوشة
احتفى البرلمان المغربي هذا الأسبوع بالذكرى الستين لتأسيسه، في سياق سياسي ومؤسساتي، يعاني من أزمة الثقة، التي تتعمق أكثر مع مرور الوقت، لأسباب عديدة ومعقدة، منها ما هو ذاتي مرتبط بالنخب الممثلة في المؤسسة التشريعية، ومنها ما هو موضوعي تتعلق بموقع البرلمان في البناء الدستوري القائم، وهي عوامل تتضافر جميعا لتجعل من المؤسسات التمثيلية، ومنها البرلمان، مؤسسات هامشية حتى الآن رغم الصلاحيات والاختصاصات القوية المسنودة إليه بموجب الدستور والقوانين ذات الصلة.
انطلاقا من دستور 2011، يمكننا أن نستنتج أن المشرع الدستوري سعى إلى جعل البرلمان في قلب النظام المؤسساتي، عبر أربع رافعات على الأقل: أولا، من خلال تعزيز صلاحياته التشريعية، التي ارتقت حد حصر السلطة التشريعية في يد البرلمان؛ وثانيا، تعزيز صلاحياته الرقابية، عبر إحداث آليات ووسائل جديدة للمراقبة، قد تمكنه من التأثير الجوهري في السياسات العمومية؛ ثالثا، تقوية علاقاته بالعديد من المؤسسات الدستورية التي باتت مدعوة إلى التواصل والتفاعل إيجابا مع البرلمان، سواء من خلال عرض تقاريرها ومناقشتها وإبداء التوصيات والملاحظات الضرورية بشأنها؛ ورابعا، تعزيز فكرة التمثيلية البرلمانية بالديمقراطية التشاركية، وبالتالي انفتاح البرلمان على مؤسسات المجتمع المدني، وعلى المواطنين، الذين أتاح لهم الدستور تقديم العرائض وملتمسات التشريع، وهي رافعة يمكن أن تعزز الدور التمثيلي للبرلمان، إن هو سعى إلى ذلك.
ومنذ الشروع في تفعيل دستور 2011، على مدى ثلاث ولايات برلمانية، انصرمت منها اثنتان وبلغنا نصف الولاية الثالثة، يمكن القول إنه باستثناء الولاية الأولى للبرلمان(2011-2016) التي تميزت بنشاط النخب البرلمانية، وسعيها إلى ممارسة جل أدوارها السياسية والتشريعية، حيث احتضن البرلمان، وخصوصا مجلس النواب، نقاشات سياسية قوية، جعلته في قلب النقاش العمومي، مؤثرا وموجها ومحددا للقضايا ذات الأولوية، فإن الولاية الثانية(2016-2021)، وما انصرم من الولاية الثالثة (2021-2026)، عرفت تراجعا لافتا في دينامية العمل البرلماني، تكاد تجعله اليوم خارج النقاش العمومي في بلادنا.
أبرز المؤشرات على ذلك أن البرلمان يبدو فاقدا للقدرة على إثارة النقاش العمومي، أو حتى التأثير في النقاشات الجارية خارجه في الفضاءات التي فرضت نفسها بديلا عنه. صحيح أن بروز هذه الفضاءات بات معطى موضوعيا، خصوصا أنها ذات قدرة على المنافسة والتأثير حتى في البلدان العريقة في الديمقراطية، لكن ما هو ملاحظ على البرلمان المغربي الحالي انسحابه المثير للاهتمام من النقاش العمومي، وكأنه متفرغ لأشياء أخرى أهم من الاختصاصات الدستورية المسنودة إليه، ولعل غيابه اللافت للنظر عن ملف أزمة النظام الأساسي لرجال ونساء التعليم.
ما الذي يجعل البرلمان الحالي على هامش النقاش العمومي؟ من بين التفسيرات الممكنة لهذا الوضع، وجود حكومة بأغلبية مريحة، لكنها تهمش ما هو سياسي، وتفضل المقاربة التكنوقراطية لحل الملفات المطروحة. ورغم أن هذه المقاربة أفضت إلى أزمات متكررة(المحامين، الأساتذة، رجال الأعمال…)، وعمّقت من أزمة مؤسسات الوساطة، ما جعل البعض يتحدث عن فراغ سياسي، إلا أن هذا التفضيل يبدو خيار لا رجعة عنه، رغم الصدمات التي تعرضت لها. نحن إزاء حكومة منتخبة لكنها تنفر من كل ما هو سياسي. وتجد هذه النزعة أقوى تعبيراتها في ميلها المنهجي للتشريع بمراسيم، في الوقت الذي تراجعت عدد القوانين المعروضة على البرلمان بغرفتيه، مقارنة بالحكومات السابقة.
تبدو هذه الإجابة مقنعة، وتعبر بدرجة أقوى عن الواقع القائم، لكن وجود حكومة تكنوقراطية تنفر من السياسة، لا يمنع البرلمان من ممارسة دوره السياسي، وإثارة النقاشات الحيوية، وتعزيز حضوره في الخريطة المؤسساتية، وهو ما يعني ضرورة البحث عن تفسير إضافي، قد يكون مرتبطا بطبيعة النخب الممثلة حاليا في البرلمان.
ما هو ملاحظ في هذا السياق، أن البرلمان الحالي تهيمن عليه نخب من نوعية خاصة، تتمثل في الأعيان ورجال المال والأعمال، بعضهم “كائنات انتخابية”، لكن بعضهم الآخر جديد على العمل البرلماني، وربما جاء إليه مضطرا تحت ضغوط سلطوية، كان الغرض منها البحث عن أعيان ومقاولين ورجال أعمال، ممن لديهم تجذر اجتماعي معين، لاستعمالهم في هزيمة حزب العدالة والتنمية، وهي الاستراتيجية التي نجحت في النهاية، لكن في الوقت الذي حطمت “البيجيدي”، أغرقت البرلمان بغرفيته بكائنات لا هي انتخابية ولا هي سياسية.
وعليه، لا يمكن فصل الوضع المغشوش للبرلمان اليوم عن نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2021، التي أثارت نقاشات قوية حول نزاهتها، وأفرزت خريطة سياسية مغشوشة، وهو الجدل الذي تزكيه المتابعات القضائية الجارية لعشرات البرلمانيين، والتي كشفت أيضا عن وجود اختراق منظم للمؤسسات الدستورية من لدن تجار المخدرات، بل حتى توظيفها للتغطية على أعمال غير قانونية، وهو وضع خطير ومنذر بالكوارث، إن لم يتم تحميل تحديد المسؤوليات وترتيب الجزاء السياسي والقانوني اللازم.