story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

لطيفة البوحسيني عن حصيلة 25 سنة من حكم الملك محمد السادس: عدنا إلى ما قبل 1995

ص ص

خصّت الأستاذة والحقوقية، لطيفة البوحسيني، العدد الخاص من مجلة “لسان المغرب” الصادر بمناسبة الذكرى 25 لوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، بمساهمة هذا نصها الكامل:

تعتبر 25 سنة من الحكم، مدة كافية جدا للوقوف عند الحصيلة في مختلف المجالات، سياسية كانت أو حقوقية، اقتصادية أو اجتماعية. غير أن ما يهمنا هنا ليس هو عملية الجرد بقدر ما نتوخى التوقف عند الاتجاهات أو الميل العام الذي طبع الحكم خلال هذه المدة، مع الإشارة كلما استدعت الضرورة ذلك إلى أمثلة محددة للتدليل على ما سنعرضه. سنقوم بذلك عبر تقسيم مدة الحكم هاته إلى ثلاثة مراحل، لكن قبل ذلك نذكر بالسياق.

السياق
أود بداية التذكير أن السياق العام الذي ميّز وصول الملك محمد السادس إلى سُدة الحكم هو سياق شهد تحولات مهمة وفي مختلف المجالات. فقد تميزت العشر سنوات الأخيرة من حكم الملك الحسن الثاني بعدة قرارات يمكن وضعُها تحت عنوان بارز: تدشين بداية القطيعة مع المرحلة السابقة وفتح آفاق جديدة لضمان الاستقرار، بما في ذلك استقرار النظام نفسه.

بعد أن حسم الصراع الذي دام لعقود مع مكونات الحركة الوطنية والديمقراطية ومكونات اليسار الجديد لصالحه، وبعد أن تمكّن النظام من ضبط الحياة السياسية على إيقاعه ووثيرته، ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي مع ذلك مُهدّدا للاستقرار.

لم تنجح الاختيارات العامة حينها في تحسين الأوضاع المعيشية ولا في النهوض بالتعليم والصحة، بل ساهم اعتماد برنامج التقويم الهيكلي سنة 1983 في إضعاف القدرة الشرائية أكثر مما كانت عليه، وإنهاك المدرسة العمومية والحد من الخدمات الصحية وإحداث لا توازن كبير نتج عنه تعميق للفوارق الاجتماعية والمجالية والترابية وفوارق النوع بشكل أقوى، وعمّق الهشاشة وزاد من حدة الفقر بكل أنواعه.

لعل هذا ما أدى إلى الدعوة إلى تنظيم الإضرابات العامة من طرف النقابات وتسبّب في انفجار العديد من الحركات الاحتجاجية. ترتّب عن هذا اضطرار النظام إلى البحث عن حلول سياسية تضمن نوعا من الاستقرار الاجتماعي عبر المدخل السياسي، خصوصا بعد التقرير الذي طلبه الحسن الثاني من البنك الدولي والذي أكّدت مخرجاته ضرورة التصدي للوضع قبل أن تقع “السكتة القلبية”.

شكّل هذا إيذانا بمرحلة جديدة، تمثلت في التفاوض مع مكونات “الكتلة الديمقراطية” بغرض إشراكها في الحكومة، عبر إصلاح دستوري. وقد تمخّض هذا المسار عن اعتماد دستور 1996 وتنظيم الانتخابات وفتح المجال أمام المعارضة السابقة لتكوين الحكومة التي قامت على توافق وعلى ذكاء جماعي بين مكونات المجتمع والنظام للانتقال إلى وضع أفضل للمغرب والمغاربة.

عديدة هي القرارات التي اتُخذت والمشاريع الكبرى التي أطلقت حينها والتي كان الغرض منها هو تحقيق انتقال بخلفية الإصلاح. نذكر من بينها تلك التي شكّلت رهانات حقيقية وأولويات، سواء بالنسبة لمكونات الكتلة أو للمنظمات الحقوقية، وهي باقتضاب:

-خلق جو الثقة وفسح المجال لنوع من الانفراج الذي يسمح بتصالح المجتمع مع الشأن العام ومع المشاركة في الحياة السياسية. نشير إلى أن هذا العنصر، وبالنظر لكونه يستدعي ويمس البنية العميقة، فإنه يحتاج بالضرورة إلى وقت طويل وإلى صبر ونفس وتراكم وإلى سيرورة كي تظهر نتائجه وتستقر آثاره. إلى جانب ذلك، فهو عنصر يرتهن لإرادة سياسية واضحة من طرف النظام السياسي وانخراط جاد من طرف الفاعلين السياسيين.

-تحقيق نوع من التنفيس على الحريات العامة واعتماد نوع من اللبرلة النسبية لحقل الإعلام، وهو ما سمح بتزايد أعداد الصحف المستقلة، كما دُشن عهد الاعتراف بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة خلال سنوات الجمر والرصاص عبر وضع هيئة التحكيم المستقلة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المغتربين والمنفيين، إضافة إلى انضمام المغرب لعدد من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان.

-اعتماد التوجه الليبرالي من الناحية الاقتصادية، مع ما تطلبه ذلك من إصلاح إداري، خصوصا بالنسبة للقطاعات ذات الارتباط بالحياة الاقتصادية والإنتاجية.

-إطلاق ورش إصلاح منظومة التعليم وتعميمه؛

-الاهتمام بالبنيات التحتية وتوسيع كهربة العالم القروي وتزويده بالماء الشروب وتمديد شبكة الطرق؛

-مراجعة مدونة الأحوال الشخصية (سنة 1993) بعد أن ظلت في حكم “المقدس” لعقود من الزمن؛

هذه هي بعجالة عناصر السياق الذي ورثه الملك محمد السادس والتي ينبغي الانطلاق منها في تقييم حصيلة ربع قرن من حكمه، والتي سنقسمها إلى ثلاثة مراحل، هي كما يلي:

1.مرحلة البدايات: الاستمرار الذي لم يُعمر طويلا (1999-2002)
سمحت الخطوات الأولى المتخذة في بداية العهد الجديد بنوع من الارتياح من حيث التوجه العام الذي بدا وكأنه يسير على ما تم رسمه في السابق، والتي يمكن الإشارة إليها كالتالي:

-تغيير واضح في الخطاب وإطلاق عدد من المفاهيم لترويجها في الحقل التداولي، من قبيل المفهوم الجديد للسلطة والمشروع الحداثي الديمقراطي وتجديد الحقل الديني؛

-إقالة الوزير الذي شكّل رمز الرصاص في الحقبة السابقة (إدريس البصري)، مع ما لهذا من دلالة علاقة بالبعد النفسي؛

-وضع هيئة الإنصاف والمصالحة مع مقاربة أعمق من تلك التي اعتمدتها هيئة التحكيم المستقلة في السابق؛

-الانفتاح على مكونات المجتمع المدني وفسح المجال للشراكة بما يضمن ترسيخ أسس الثقة وتجاوز مناخ الحيطة والحذر الذي عمّ سابقا؛

-الاستمرار في الأوراش التي سبق تدشينها، ومنها بالأساس: إصلاح التعليم، الانفتاح أكثر على العالم القروي وتجاوز الحصار التنموي الذي كان مضروبا عليه في السابق؛

-اعتماد مدونة الأسرة (2004) مع مراجعة عميقة لعدد من مقتضياتها، على عكس ما كان عليه الأمر في المراجعة السابقة؛

هذه بعض العناصر التي شكّلت مؤشرات إيجابية، والتي سمحت بنوع من الارتياح من كون العهد الجديد يُرسخ ما دُشّن في العقد الأخير من حكم الحسن الثاني، غير أن هذا الارتياح لم يُعمّر طويلا وطفت إلى السطح مؤشرات أخرى، شكّلت عناوين للقلق، وهي التي طبعت المرحلة الثانية للحكم.

2.مرحلة التأرجح بين خيار الإصلاح والعودة إلى التحكم (2002 – 2011)
نشير هنا إلى نوع من الالتباس الذي طبع هذه المرحلة، التي كان يتنازعها من جهة الاستمرار في الإصلاح ومن جهة أخرى العودة سياسيا إلى عملية الضبط، والتي كانت تبدو طبيعية من حيث الرغبة في وضع البصمة الخاصة للعهد الجديد، لولا الانحراف الذي ميّزها.

يتعلق الأمر بداية ومن الناحية السياسية بالتخلي عن “المنهجية الديمقراطية” على إثر الانتخابات التشريعية لسنة 2002 والتي تصدّر نتائجها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حيث تم تعيين وزير تقنوقراطي (ادريس جطو) ومعه تدشين تحول حافظ على استمراره.

تحول تميز بإفراغ الانتخابات من مضمونها السياسي، وتدشين عهد الخيار التقنوقراطي. وكان من آثار اعتماد هذا الأخير ضرب كل إمكانية للمحاسبة السياسية (الانتخابية) ومعها جعل المسؤولية والمسؤولين في منأى عن أداء الحساب.

شكل ذلك إيذانا بنوع خاص من التضييق على الفاعل السياسي الحزبي ومؤشر على العودة مُجددا إلى ما ساد في السابق، أي التحكم في الفضاء السياسي بالطريقة التي تخدم توجه العهد الجديد. رافق ذلك عدد من القرارات التي طبعتها مفارقة واضحة، تؤكد من جهة الاستمرار في اعتماد عدد من الإجراءات لكن دون وضعها ضمن خيار إصلاحي استراتيجي شامل من جهة أخرى، والحرص بالموازاة على التحكم في الأولويات وفي الإيقاع وحتى في الفاعلين.

في هذا الإطار تم الإعلان عن تأسيس حزب جديد من قلب الدولة العميقة وبإشراف من مستشار ملكي، وهو الحزب الذي أُنيطت به مهمة “مضمرة” تجّلت في ملء الفراغ الذي تركه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (وباقي مكونات اليسار الإصلاحي) خصوصا بعد قبول هذا الأخير المشاركة في حكومة جطو، والتي تركت آثارا جد سلبية عليه، لم ينجح نهائيا في أن يرفع رأسه بعدها، ولعل النتائج التي حصل عليها في الانتخابات التشريعية لسنة 2007 تؤكد ذلك.

أما المهمة الأخرى، وهي ملازمة للأولى، فقد تجلّت في اقتراح بديل عن حزب إسلامي (العدالة والتنمية) الذي بدأ نجمه يسطع وأصبحت قوته تكبر. إذا استحضرنا سياق العملية الإرهابية التي مسّت مدينة الدار البيضاء في 16 ماي 2003 واعتماد قانون مكافحة الإرهاب الذي دفعت به الولايات المتحدة الأمريكية بعد الهجمات التي مست نيويورك يوم 11 شتنبر 2001، سيتضح المنحى العام الذي طبع الحكم في المغرب حينها.

شكلت الاعتقالات الواسعة في صفوف تيار السلفية الجهادية وتصاعد خطاب الاستئصالية واعتماد مقاربة أمنية متشددة بداية النهاية، والتي، ويا للمفارقة ستتزامن مع الوقت الذي كانت فيه هيئة الإنصاف والمصالحة تنصت لضحايا الانتهاكات الجسيمة وتُعد تقريرها مع التوصيات القاضية باعتماد إجراءات تنص على عدم التكرار. وهنا تبدأ المرحلة الثالثة.

3.مرحلة الحسم مع خيار الانتقال والانزياح إلى السلطوية (2011 إلى اليوم)
بدأت هذه المرحلة بعد دستور 2011 الذي جاء نتيجة “حركة 20 فبراير”. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن اتساع دائرة التظاهر والخروج في مختلف المدن المغربية في هذا الظرف وكذا الشعارات التي رُفعت بيّنت بالملموس ما كان يعتمل في قلب المجتمع، وأكّدت أن هناك استياء عام ارتقى إلى مستوى الغضب، وأن ما اعتُمد من برامج ومن خطاب لم يكن له أثر على حياة الناس، وأن الاختيارات السياسية لم تنجح في إرضاء عدد من الفاعلين في الساحة السياسية، وأن الطلب على اعتماد الديمقراطية أصبح واضحا.

كما أن الوعي بأن حل الإشكاليات الاجتماعية يكمن في طبيعة النظام السياسي أصبح يتسع ويتمدد، ومعه سقوط جدار الخوف الذي كان يُلقي بثقله لسنوات طوال على المجتمع.

وهنا ينبغي التذكير بأن سقوط جدار الخوف تحقق بفضل الجو العام السابق الذي تميز بنوع من الانفراج والانفتاح والذي كان له أثره في البنية العميقة التي نشأ عليها جيل من الشباب لم يعرف سنوات الرصاص.

شكلت “حركة 20 فبراير” لحظة فارقة من حيث التعبير المجتمعي وضغطه على ميزان القوة السياسي، اضطرت النظام للتفاعل معها واقتراح عرض إصلاح دستوري، تُوّج باعتماده في فاتح يوليوز 2011، مع عدم المشاركة من طرف أهم مكونات الحركة.

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن عددا من الأحزاب أخلفت الموعد مع اللحظة التاريخية التي كان المغرب يمر بها، ولم تستأنس في نفسها القدرة على الضغط السياسي للحصول على نتائج أفضل، بل ربما كان ذلك تعبير عن إرادتها في أن يظل النظام كما هو، وأن تحافظ الملكية على طابعها التنفيذي إلى جانب اعتبارها عصب الحياة السياسية. وهنا تتضح مسؤولية النخب السياسة ومحدودية أفقها علاقة بسيرورة البناء الديمقراطي وعجزها على التقاط الموعد مع التاريخ.

شكّل هذا التواطؤ من طرف جزء من الفاعلين الحزبيين عاملا مساعدا على الاتجاه الذي سيتخذه النظام. إذ وبمجرد تنظيم الانتخابات في نونبر 2011 وتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدّر نتائج الانتخابات (عبد الإله بنكيران) كما نص على ذلك الدستور الجديد، سيستأنف النظام السياسي ما دشنه سابقا، وسيتم إعطاء المزيد من الدعم للحزب الذي ولد في أحضانه، في إرادة واضحة لكبح أي تعبير سياسي نابع من قلب المجتمع.

هناك أحداث فارقة وقعت خلال العشرية التي تلت اعتماد الدستور الجديد، والتي يمكن أن نُجملها فيما يلي:

لم تتوقف الاحتجاجات الفئوية أو القطاعية، واستمر التظاهر في الشارع. إذ وبعد أن اطمأن النظام على قدرته في ضبط الحياة السياسية، بما في ذلك الطريقة التي دُبرت بها نتائج انتخابات 2016 (البلوكاج)، لم ينجح مقابل ذلك وبمعية الحكومة الخاضعة لقراراته، في تقديم عرض يستجيب لأهم المطالب المعبر عنها من طرف المجتمع. عُدنا إلى انحراف واضح في التعامل مع مختلف الحركات الاحتجاجية وحتى مع بعض الوقفات ذات الدلالة السياسية.

ويمكن التذكير ضمن ذلك بالوقفة ضد قرار العفو على مغتصب الأطفال “كالفان” غشت 2013، مرورا بأحداث جرادة ووصولا إلى حراك الريف (2017) والقمع الشرس الذي تلاه، والأحكام السريالية التي نُفذت في حق نشطاء الحراك. هذا ناهيك عن اعتقال عدد من المدونين والنشطاء والصحفيين البارزين، من بين من تميزوا بخط تحريري مستقل يحرص على نوع من اليقظة ومتابعة الملفات والقضايا برؤية نقدية ويضع الأصبع على مكامن الخلل في القرار السياسي وفي السياسات العمومية.

في هذا الإطار، يتضح أن النظام طوّر أسلوبا جديدا مختلفا عن العهد السابق لكنه لا يقل خطورة عنه، أسلوب يعتمد على التشهير بالمعارضين واللعب على الوتر الأخلاقي الحساس وتعبئة صحافة خُلقت لتتكلف بهذه المهمة.

ولأن هذا لم يكن كافيا للإغلاق النهائي لأية حياة سياسية خارج ما يتوقعه وينتظره المخططون لهذه الاستراتيجية، فقد مروا إلى التحكم في الانتخابات (2021) بالشكل الذي يجعل ثلاثة أحزاب (أحزاب الأعيان أو أحزاب فاقدة لاستقلاليتها) هي المتحكم رقم واحد في كل المؤسسات الانتخابية، من برلمان، جهات وجماعات، وطُويت معه صفحة وصول الأحزاب كتعبير عن دينامية المجتمع من خلال انتخابات تعكس إرادة الناخبين.

لا يسعنا في هذا الإطار إلا التذكير كذلك ببعض المؤشرات التي تعكس العجز على حل مشاكل بنيوية، وهي كما يلي:

  • مؤشر التنمية البشرية: يصنف المغرب في الرتبة 120 على 190 دولة؛
  • مؤشر الحريات: 117 على 162 دولة؛
  • مؤشر مدركات الفساد: 97 من أصل 180 دولة؛
  • مؤشر المساواة بين الجنسين: 137 على 164 دولة.

أرقام من قبيل مليون و483 ألف من الشباب ضمن الفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة لا أفق لها، لا هي في المدرسة ولا هي في العمل ولا هي في التكوين، مع نسبة 72.8% من الشابات بينها، ورقم 19% من النساء فقط ضمن الساكنة النشيطة، هي أرقام مخيفة جدا، يصعب تخيل ما سينجم عنها مستقبلا.

طبعا في إطار الاختيارات والأولويات التي حددها النظام وفي تغييب شبه تام لإرادة المجتمع، تحققت بعض المنجزات المتمثلة في:

-تمديد البنيات التحتية وتوسيع شبكة الطرق وشبكة السكك الحديدية، واعتماد عدد من البرامج التي من شأنها تأهيل الاقتصاد؛

-وضع عدد من المؤسسات، الرسمية وشبه الرسمية والعديد من مؤسسات الحكامة، التي لا ينبغي التقليل من أهميتها في سيرورة بناء دولة المؤسسات؛

-رسوخ فعالية بعض المؤسسات، خصوصا الأمنية منها، والتي لها أهميتها في تدبير الظروف الاستثنائية ولحظات الأزمة، كأزمة الكوفيد؛

-فتح ورش تعميم التغطية الصحية والاجتماعية بما له من أهمية في تخفيف الضغط الذي تعانيه شريحة واسعة من الفقراء؛

لكن كل هذا لم تنعكس آثاره على أوضاع الفئات العريضة من المغاربة، التي تعاني درجات عالية من الفقر والهشاشة. وإذا استحضرنا كيف تم الانحراف بالانفتاح الليبرالي اقتصاديا ليصبح السوق مُتحكما في القرارات التي تهم السياسات العمومية، بل وتهم الحياة برُمتها، بما في ذلك القيم وحتى الذوق العام، وإذا تذكرنا كيف أُفرغت المؤسسات التي تم وضعها من الرهانات التي كانت مُرتقبة منها بعد أن تحولت إلى وجهة يقصدها من لا استقلالية لهم، نتصور كيف لا يصمد الإقرار بالقرارات الإيجابية ويصبح الجزء الفارغ من الكأس هو البارز.

في الخلاصة يمكن القول بأنه على مدى 25 سنة من العهد الجديد، تقدّمنا خطوة صغيرة جدا وفتحنا هامشا ضيقا، حققنا معه بعض المكتسبات البسيطة، لكن سرعان ما أُغلق هذا القوس وعُدنا، في ضرب لكل تراكم، إلى سنوات ما قبل 1995.

لم تتم الاستفادة من خلاصات التجربة التي اضطرت الحسن الثاني حينها إلى إطلاق ورش الإصلاح السياسي، ولو بالاحتفاظ على هامش كبير للمناورة، وحتى إن كان بنتائج محدودة. لقد قرر العهد الجديد التخلي عن خيار الإصلاح الذي كان يُرتقب ترسيخه وتصبح معه الدولة ومؤسساتها هي التعبير الأسمى للأمة بقرارات وأولويات تخدم المواطنين، ويتم الحسم بدون رجعة في خيار المواطنة بدل خيار الغلبة.

الأخطر من ذلك، أنه وبعد ربع قرن، أصبح زواج المال والسلطة والتضييق على الحريات مقرونا بتزايد الفساد، عنوانا عريضا يطبع أسلوب تدبير الحياة الاقتصادية والحياة السياسية، وأصبحت رموز فساد كبيرة، هي التي تتحكم في الحياة السياسية وفي الإدارة وفي البرلمان، وفي المجال الاقتصادي بل وحتى في المجال الكروي.

لا أدلّ على ذلك من هؤلاء الذين وصلوا إلى مسؤوليات مُهمة ودخلوا قبة البرلمان، والذين تورطوا في ملفات فساد كبيرة لم يعد معها بالإمكان السكوت عن فسادهم، بل أصبح ضروريا التضحية بهم وتقديمهم إلى العدالة، دون أن تشكل المحاسبة خيارا حقيقيا.

لقد تم إفراغ الحياة السياسية وبقي الدستور حبرا على ورق، ليُفتح المجال أمام نوعين من الفاعلين: إما تكنوقراط أُنيطت بهم مهام التدبير الحكومي أو بالأحرى التنفيذ، أو الاعتماد على أشخاص لا علاقة لهم بالحياة الحزبية بقدر ما لهم “الشكارة” والأموال اللازمة التي مكنتهم من الدخول إلى المؤسسة التشريعية، والاعتماد على الأغلبية التي نجحوا في تشكيلها بغرض، إما تبني تشريعات تُسهل عليهم خدمة مصالحهم لا مصالح الاستقرار الاجتماعي، أو الحيلولة دون اعتماد تشريعات تُسائل الاغتناء غير المشروع.

كل هذا على خلفية الإضعاف الممنهج للفاعل السياسي الحزبي، بما في ذلك المنخرط في خيار الإصلاح من داخل المؤسسات. تمكن النظام من توظيف عدد من التناقضات والصراعات التي اخترقت الفاعلين الحزبيين والتعبيرات السياسية المختلفة، ونجح بتواطؤ منها في أن تظل عدد من القرارات ذات طابع ظرفي دون أثر كبير على المواطنين واستطاع أن يفرض اختياره المتمثل في تفكيك تعبيرات المجتمع وفي نشر جو الخوف والترهيب من أي تطلع للحرية والتعبير الحر.

بين هذا الطاعون الذي يُمثله الفساد، والتضييق على الحريات وبذل مجهودات ضخمة لإفراغ الحياة السياسية من فعاليتها، مضاف إليها قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني والتشبث به رغم حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني المستمرة منذ طوفان الأقصى، يواجه المغرب اليوم فراغا مخيفا وحالة احتقان ضاغطة لا تُبشر بأي خير. إنها حالة قريبة، بل لربما أعمق بكثير من حالة السكتة القلبية للتسعينيات.

ما يجعلنا نعتبر أن وجه النظام لم يتغير وأن الهدف من بعض الإجراءات الطفيفة يتمثل أساسا في ضمان حد أدنى من شروط الاستقرار المضبوط أمنيا، لا التصدي للمشاكل البنيوية.

فإلى أي حد يمكن التعويل على قدرة المجتمع وصبره على تحمل كل هذه الضغوطات، السياسي منها والاجتماعي والمعيشي والحقوقي؟

ألم يحن الوقت بعد لإدراك ألا سبيل لتقدم هذا البلد وألا استقرارا ممكنا إلا بإرادة سياسية واضحة تسمح بتجاوز منطق الغلبة وتغليب الذكاء السياسي الجماعي وتدبير الاختلاف خارج المقاربة الأمنية، مع تحقيق انفراج حقيقي؟

ألا ينبغي الاستفادة من دروس الماضي القريب والسعي الحكيم إلى اعتماد خيار التوافقات الكبرى القائم على إشراك الجميع من أجل إنقاذ البلاد والعباد؟