لشكر محاميا لإسرائيل

تابعت الليلة الماضية، الأربعاء 26 مارس 2025، جزءا من الخرجة الإعلامية التي قام بها الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر، والتي لا يمكن أن يكون لها من عنوان سوى اتهامه الواضح والمباشر للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
إن أكثر ما يثير الغضب في بعض الخطابات التي تتلبّس الحياد أو النقد السياسي الرزين، هو هذا الميل الفجّ إلى مساواة المقاومة بالجريمة، ووضع رد الفعل في كفة الفعل ذاته، كما لو أن المتمرّد على الذبح يساوي الذباح في الإثم.
على افتراض أن “حماس” أخطأت التقدير، أو بالغت في رهانها، أو أخفقت في قراءة لحظة ما، فإن هذه الأخطاء، مهما عظمت، لا تُقارن ولا تُوضع في الميزان نفسه مع جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، تحت أعين العالم.
إن توجيه اللوم إلى المقاومة اليوم، هو كمن يوبّخ صاحب البيت لأنه قاوم اللصوص، ويحمله مسؤولية قتل أطفاله، لأن مقاومته أزعجت المعتدين ودعتهم للفتك بأسرته. إنه منطق مقلوب، لا يستقيم أخلاقيا، بل يبرّر الجريمة تحت غطاء الحياد.
من حيث الشكل، لا يمكن إلا تثمين مثل هذا الخروج الإعلامي، لكونه خطوة إيجابية وبادرة حميدة في اتجاه مشاركة النخبة السياسية في النقاش العمومي. لكن من حيث المضمون، فإن التوقيت، واللغة، والسياق، كلها تجعل من هذه الخرجة فعلا سياسيا غير بريء، يحمل في طياته أكثر مما يقول، ويخفي خلف سطوره ما هو أخطر من التبرير: التطبيع مع المنطق الإسرائيلي.
ففي لحظة فلسطينية ملتهبة، حيث الدماء لم تجفّ من طرقات غزة، وبين ركام البيوت المستباحة، وأصوات الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم تئن تحت الأنقاض؛ خرج إدريس لشكر، من صمته الطويل، لا ليشهر سيف الغضب في وجه القتلة، بل ليُوجّه سهام اللوم نحو الضحية.
هي خرجة إعلامية مباغتة، جاءت في وقت ينتظر فيه الرأي العام المغربي من النخب السياسية المغربية، التعبير عن مواقفه من خلال دعم واضح لا لبس فيه لقضية تُعتبر، بحسب كل المواثيق التاريخية الوطنية، قضية وطنية بامتياز؛ لكنها حملت انحيازا ضمنيا لرواية المحتلّ، وتسويقا غير مباشر لسرديته التي تسعى لتحميل المقاومة مسؤولية المجازر.
إنها سردية خبيثة تُبنى على قلب الحقائق، وعلى تكتيك خبيث: بدل مواجهة الاحتلال، يتم تحويل النقاش إلى الداخل الفلسطيني، ليبدو الأمر كما لو أن الفلسطيني هو عدوّ نفسه.
الأولى بالنقاش في السياق الحالي، هو ما يجري منذ السابع من أكتوبر، من حرب شعواء، تُستخدم فيها أقصى أدوات القتل والدمار، وتُقصف فيها المستشفيات والمخيمات ومراكز الإيواء.
أكثر من 15 شهرا من الموت والخراب، لم نسمع خلالها إدريس لشكر ينطق بكلمة واحدة. لا بلاغ، لا تصريح، ولا موقف واضح. اختار الصمت حين كان يجب الكلام، وحين تكلم، اختار الاتجاه الخطأ.
إنها مفارقة عجيبة أن لشكر لم يُحرّكه حجم الدمار، ولا مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، بل استفزه خروج بعض أبناء غزة في مظاهرات محدودة يشتكون فيها من ظروفهم القاسية، فخرج ليحمّل المقاومة مسؤولية المأساة، في تجاهل تام لأصل الجريمة، والذي هو الاحتلال.
لنُدقق قليلا في المشهد:
هل كانت حماس موجودة حين وقعت نكبة 1948؟
بل هل كانت حماس موجودة في فلسطين عندما شرعت العصابات الصهيونية في قتل وتهجير الفلسطينيين قبل إعلان قيام دولة كيان الاحتلال؟
هل كانت حماس طرفا في حرب الأيام الستة سنة 1967 وهي التي جرّت على العرب الهزيمة النكراء؟
هل سبّبت حماس الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982؟
هل كانت السبب في حصار ياسر عرفات وقتله؟
حماس لم تولد إلا في أواخر الثمانينيات، ومع ذلك، تُحمَّل اليوم وزر قرن من الاحتلال والخذلان والهزائم، ولا تفسير لذلك سوى الحسابات الأيديولوجية الصغيرة، والاستثمار في ما يبدو للبعض علوّا في الأرض للطرف الظالم.
المشكلة ليست في نقد “حماس”، فهذا أمر مشروع، وهذا فصيل سياسي يصيب ويخطئ، وقد سمعنا نبرة النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء حتي من داخل صفوفها. فالنقاش الحر في التجارب السياسية للمقاومات أمر ضروري لتطوير الأداء، وتقييم التكتيكات، وتصويب المسار حين يقتضي الأمر.
المشكلة الحقيقية تنشأ عندما يتحوّل هذا النقد من أداة بناء إلى معول هدم، يُستعمل من طرف قوى سياسية وإعلامية لإدانة المقاومة لا لتقويمها، وكوسيلة لإراحة الضمير أو التملص من واجب الدعم والمساندة.
الأخطر من كل ذلك أن يتحوّل هذا النقد إلى غطاء أخلاقي لخطاب العدو، بل إلى شريك موضوعي في الرواية الصهيونية، حين يُسوَّق على أنه “رأي تقدمي” أو “وجهة نظر حداثية”، وهذا ما يفعله، بوعي أو بدون وعي، الخطاب الذي خرج إدريس لشكر ليروّج له، حين يضع المقاومة في قفص الاتهام، ويُعفي الاحتلال من مسؤوليته الأصلية، ويخلق مناخا يوحي بأن المأساة الفلسطينية نتاج قرارات فلسطينية، لا نتيجة منظومة استعمار إحلالي استمرت عقودا طويلة.
النتيجة؟ ضرب وحدة الموقف المغربي من القضية الفلسطينية، والتي كانت دائما نقطة قوة. فالمغرب الرسمي، بما فيه من توجهات، ظل على مدى عقود مناصرا لحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، مهما اختلفت أدواتهم. والمجتمع المغربي، بكل أطيافه، لم يفرّق يوما بين فتح وحماس، بل رأى في الجميع أبناء قضية عادلة تستحق الدعم، فاستقبلنا ياسر عرفات كما استقبلنا خالد مشعل.
قد تكون نوايا البعض ممن يعبّرون عن مثل هذا الموقف حسنة. وقد يرون أن ما تقترفه المقاومة يعقّد المشهد، أو في غير محلّه، أو لا طائل منه… لكن لا يمكن نهائيا قلب الحقائق وتزييف الوعي، والفرق واضح بين من يحتلّ ومن يقاوم:
“حماس” قاتلت ليوم واحد، وإسرائيل قتّلت لأشهر.
“حماس” ارتكبت أخطاء، هذا أكيد، لكن إسرائيل ارتكبت مجازر.
ومن لا يرى هذا الفرق، فهو أعمى البصيرة.
حين نُحمَّل المقاومة مسؤولية ما تفعله إسرائيل، نكون أمام لحظة سقوط أخلاقي مدوّ. فالمقاومة لا تحتاج إلى صك براءة من أحد، بل تستمد شرعيتها من الأرض، ومن الدم، ومن الأمل، ومن التاريخ الذي لا يرحم المتخاذلين.
وإذا كان التاريخ قد علّمنا شيئا، فهو أن الشعوب لا تُهزم، بل القادة الذين تخلّوا عن قيمهم هم من يُمحون من ذاكرة الأمم، وتعرفون أين يُلقى بهم.