story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لا حكمَ ذاتيا إلا بديمقراطية

ص ص

أعرف مسبقا أن المسار التشاوري الذي فُتح مع الأحزاب هذا الأسبوع لن يوسّع النقاش العمومي حول الحكم الذاتي في الصحراء، بل ربّما سيضيّقه بالضرورة.

فحين يُطلب من الفاعلين أن يكتبوا تصوّراتهم ثم يلتزموا الصمت إزاء الشعب الذي يُفترض أنه صاحب المصلحة الأولى، نكون أمام مقاربة تُغلّب هاجس التدبير على حق الناس في الفهم والمشاركة.

نعم، قد تكون للسرية مبرراتها عند من يمسك بمقود الملف في لحظة دقيقة، لكن الصحافة لا تُشاطر الصمت، لأن واحدا من شروط نجاح أية صيغة في الإصلاح، مثل مشروع الحكم الذاتي، هو أن يتملّكها المغاربة، أي أن يعرفوا منطقها، ومزاياها، وكلفتها، ومخاطر إساءة تفعيلها.

القاعدة بسيطة: ما لا يتملّكه الناس لا يدافعون عنه، وما لا يفهمونه لا يحسنون حمايته.

لكن لنضع هذا التحفظ جانبا وننظر إلى الفرصة لا إلى المانع. نحن أمام منعطف إيجابي في مسار إنهاء النزاع، والمنعطف لا يُقاس ببلاغات الانتصار، بل بما يتيحه من إمكان لإصلاح الداخل. والفرصة هنا ليست تقنية في صياغة مواد إضافية على مقترح قديم، بل لحظة استدراك ديمقراطي تأخّر كثيرا.

قبل أي نقاش في التفاصيل، علينا أن نتفق على حدّ أدنى من إدراك ما يجري: لسنا بصدد نصر حقّقناه على الخصوم واسترجعنا بموجبه حقّنا التاريخي والسيادي. نحن أمام وضع آخر، مختلف، لا يقل]ّل من أهمية المنجز لكنه مختلف. نحن أمام توليفة اخترنا بكل حكمة التاريخ التي يتمتع بها نظامنا السياسي، أن نقترحها على الآخرين، والذين لا يتجسّدون في الجيران فقط، بل في كل من يبحثون عن موطئ اصبع ولهم مطامع ومصالح في المنطقة.

هذه التوليفة تنطوي على تنازلات غير سهلة بتاتا قررنا القيام بها، وأولها الإقدام على تغيير جذري في طبيعة الدولة والنظام والتنظيم الترابي للبلاد. وبقاؤنا داخل رقعة تقاسم المصالح وفقا لهذه التوليفة، رهين بأمر واحد: قدرتنا على إنتاج نموذج ديمقراطي جديد يستوعب ولا يفرّق. يستوعب داخليا فيمنع الانشطار، ويستوعب خارجيا فيمنع عودة التآمر والحصار الذي فرضه علينا الأوربيون منذ قرن ونصف على الأقل.

هذا النموذج له اسم واحد: دولة ديمقراطية لشعب حرّ، ومنصة منيعة ذات سيادة نعم، لكنها منفتحة على التفاوض الدائم من أجل تعديل الكفّة وتصحيح الخلل، سواء في الداخل أو مع الخارج.

هنا يتقاطع سؤال الصحراء مع سؤال الدولة التي نريدها. أي مركز للسلطة، يضع السيادة حيث يجب أن تبقى، وجهاتٌ تُدَبِّر شؤونها بصلاحيات حقيقية ومسؤولية محاسبة. ما لم تُفَعَّل الديمقراطية في الرباط لن يقوم حكمٌ ذاتي ذو معنى في العيون والسمارة والداخلة. لا يمكن أن نقيّد الهواء في المركز ونطالب الأقاليم بالتنفس، خصوصا أن لدينا تاريخٌ من الفرص المهدورة يخبرنا أن قضايا السيادة لا تُحلّ بالأمن وحده ولا بالدبلوماسية وحدها.

بعد الاستقلال، بدا واضحا أن استكمال استرجاع الأرض مرتبطٌ بتحرير السياسة من ضيقها، وأن اللامركزية ليست زينة إدارية بل أداة مشاركة. وفي محطات لاحقة، كما وقع بوضوح في فترة المسيرة الخضراء، كلما ارتفعت درجة الانفتاح الداخلي تقوّت أوراق المغرب خارجيا.

اليوم تتكرر المعادلة في صيغة أوضح: الحكم الذاتي لن ينجح بقدرته على إنهاء نزاع خارجي فقط، بل بقدرته على إطلاق دورة ثقة داخلية بين الدولة والمجتمع والأقاليم. هنا يدخل دور الأحزاب، لا ككتبة مذكرات إلى الديوان الملكي، بل كجسور بين نص دستوري وحياة سياسية تتنفّس.

إمّا أن تعود الأحزاب إلى وظيفتها الأصلية في تأطير المواطنين وتكوين رأي عام واع بتفاصيل التحوّل، مع الحفاظ على هامش كاف من الحق في الاختلاف، وإمّا أن تظلّ ملحقا صوتيا لخيارات تُصنع في الغرف المغلقة فتفشل حتى قبل أن تُعلن.

المطلوب من الأحزاب اليوم ليس خطابة في الوطنية، بل هندسة جديدة للثقة. وهذا يمرّ بمصارحة الناس بما هو صعب قبل ما هو سهل.

والمطلوب أيضا خيالٌ يوازن بين خصوصيات البنية الاجتماعية في الصحراء، والحقوق الدستورية العامة، فينهي أي إحساس بـ“الإقامة المؤقتة” داخل الوطن ويُخرج سجلات الإحصاء من خدمة السياسة.

في نهاية المطاف، سنُختبر جميعا: الدولة في قدرتها على احترام روح التشاور لا شكله، والأحزاب في أهليتها للارتقاء من موقع المتلقي إلى موقع الشريك، والإعلام في وفائه لحق الناس في معرفة مسؤولة لا ضجيج فيها ولا تهريج.

السرية قد تُحاط بها التفاصيل، أما المبدأ فيجب أن يبقى في فضاء العموم. والحكم الذاتي لن ينجح إذا كان هبة من فوق، بل عليه أن يصبح مسار تملّك من تحت.

إذا قُدِّم كمنحة عابرة سيذوب مع أول خلاف، وإذا بُنِي كعقد وطني صادق سيصير أفقا جامعا.

الحكم الذاتي في الصحراء مشروطٌ بديمقراطية مفعّلة في الرباط، وإلا سنكون بصدد إدارة هدنة مع الزمن لا صناعة حل مع التاريخ.

وهنا تحديدا، تُختبر أخلاق الدولة: أتعترف بشعبها شريكا في ما ستطلب منه أن يحميه، أم تريده شاهدا صامتا على ما يقرره غيره باسمه؟