story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لا تلعبوا بالمدونة!

ص ص

أن يمرّ أسبوع كامل تقريبا على ظهور ما يفترض أنه “تسريبات” من توصيات الهيئة المكلفة بدراسة مراجعة مدونة الأسرة، التي سلّمتها الهيئة لرئيس الحكومة، وبالتالي تجعل أعضاءها من وزراء ومسؤولي هيئات دستورية، إلى جانب رئيس الحكومة، في موقف الشبهة بالتلاعب بوثيقة يفترض وفقا للمنطق المؤسساتي المغربي أنها شأن خاص بالملك وهو من يملك صلاحية إعلان مضمونها واتخاذ القرار بشأنه، (أن يمرّ أسبوع)، دون أن يخرج أي من المسؤولين-المتّهمين بتسريب مضمون الوثيقة، ربما قبل أن تصل بين أيدي الملك، فهذا يعني شيئا واحدا: استهتار القائمين على هذا الملف وتلاعبهم به وتوظيفهم إياه في “لعب” صبياني وبحث أحدهم أو بعضهم عن انتصارات أيديولوجية بطريقة التحايل على الحكم في مباراة لكرة القدم.
الأمر يتجاوز مستوى الاختيارات القيمية والأخلاقية إلى توجيه بوصلتنا الجماعية نحو ما نريد أن يكون عليه أمرنا في المستقبل. أي الاتجاه الذي ينبغي أن يأخذه مسار تطورنا الفردي والجماعي. وبما أن الأمر يتعلق أساسا بالمرأة ومركزها القانوني ومكانها في المعادلة الاجتماعية والسياسية والقانونية، ينبغي للمنخرطين في هذا النقاش أن يقدموا الأجوبة العلمية والموضوعية الدقيقة والمقنعة، بدل العزف على أوتار الدين والنزوات الأيديولوجية التافهة.
شخصيا استوقفني في الفترة الأخيرة ربط ورش الإصلاحات المنتظرة في مدونة الأسرة، بموضوع آخر يتمثل في حق المرأة في الولوج إلى سوق الشغل. ولا أعتقد أن الصدفة وحدها هي التي جعلت تقريرا للمندوبية السامية للتخطيط وعددا من المقالات والتصريحات، تتزامن مع اقتراب الهيئة المكلفة بتحضير توصيات مراجعة المدونة من إنهاء أشغالها.
تساءلت وأنا أتابع وأتأمل هذا النقاش غير المباشر بين حقلي الاقتصاد والمجتمع، من باب العودة بالأشياء إلى أصولها الأولى قبل الانطلاق في رحلة تفكيكها وفهمها، لماذا تصرّ علينا التقارير الوطنية والدولية، من بنك دولي وصندوق نقد عالمي وتقارير مندوبية التخطيط ومجلس اقتصادي واجتماعي، ثم وزيرة التضامن والادماج الاجتماعي والأسرة خلال لقاء مع الصحافة حول مائدة إفطار مساء الجمعة الماضي، على ضرورة الرفع من نسبة “نشاط” المغربيات، أي نسبة اللواتي تمارسن عملا خارج البيت؟
وأنا أتطلّع إلى وثائق ودراسات وطنية ودولية لفهم أبعاد الموضوع، خارج نطاق المنظور الحقوقي الذي لا جدال ولا نقاش فيه على حق كل انسان في العمل والاستقلال المالي وتحقيق الذات، صادفت مساهمة قيّمة، من حيث منهجها ومرجعياتها، قدّمها الأستاذ الباحث في الاقتصاد، نبيل عادل، عبر موقع “لوبريف” الناطق باللغة الفرنسية، يحذر فيها من الانهيار الديمغرافي الذي يمكن أن يعرفه المغرب، ومن مساهمة الإصلاحات المحتملة للمدونة، في تسريعه وتفاقم مخاطره.
يبدأ الخبير الاقتصادي بمعطى يشكل بداية موفقة لمحتوى يريد إثارة انتباه القارئ وحمله على مواصلة القراءة، ويذكرنا أن مبيعات الحفاظات الخاصة بكبار سن في اليابان، تفوق ما تحققه مبيعات حفاظات الأطفال، بفعل شيخوخة السكان وتأخر سن الزواج وانشغال الناس أكثر بمساراتهم المهنية والدراسية مقارنة بما يكرسونه للأسرة وواجباتها.
ويضيف الخبير أن الخلل الديمغرافي أمر واقع في المجتمعات الغربية والدول التي توصف بالمتقدمة، بدليل الطلب الكبير الذي تعبر عنه هذه الدول في اليد العالمة الأجنبية الشابة والمؤهلة في مجالات ترتبط أساسا بالرعاية الاجتماعية للمسنين.
ويقدم نبيل عادل أمثلة متنوعة للدول التي شهدت انهيارات ديمغرافية حديثة بفعل تراجع نسب الخصوبة فيها، منها مثلا بلغاريا التي فقدت 18 في المائة من سكانها خلال عشرين سنة الماضية، والمنحى التنازلي نفسه تعرفه دول أخرى مثل رومانيا وكرواتيا وليتواونيا…
طيب ما علاقتنا نحن بهذا الكابوس الديمغرافي؟
يجيب الخبير الاقتصادي في مقالة تستحق التأمل، أنه إذا استمر المغرب في المنحى الحالي لتطوره الديمغرافي، فسيجد نفسه خلال جيل أو جيلين، وقد تحول إلى “دار للمسنين”. وخلال ربع قرن، أي في 2050، سيصبح الشاب المغربي مطالبا بالعمل بشكل مضاعف مرة أو مرتين مقارنة بإيقاع العمل الحالي، إذا أردنا الحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد وتحقيق التوازن بين الإنتاج والنفقات.
وفي جميع الأحوال سيكون هناك خلل واضح بين قدرة المواطنين النشيطين على الإنتاج والاستثمار وخلق القيمة، وما تتطلبه خدمات الرعاية الصحية والمعاشات، سواء بالنسبة للميزانية العامة أو الصناديق الاجتماعية. والسبب؟ إنه انتقال معدل الخصوبة في المغرب من مستوى كان يقارب 8 أطفال لكل امرأة في الستينيات، إلى أقل من طفلين ونصف لكل مغربية حاليا، في مقابل ارتفاع معدل سن الزواج لدى المغربيات من 17،5 عام 1960 إلى 25،5 حاليا.
طيب ما علاقة كل ذلك بالمدونة وإصلاحاتها؟
يجيبنا الخبير نفسه أن هذه الإصلاحات التي انطلقت مع بداية التسعينيات، ساهمت في تسريع وتيرة التحول الديمغرافي الذي عرفه المغرب، وذلك عن طريق توجهها نحو جعل الزواج أصعب والطلاق أسهل.
فالزواج يصبح تدريجيا أكثر صعوبة مع تقدّم هذه الإصلاحات، عبر رفع السنّ الأدنى للزواج، والتضييق على جميع إمكانيات التعدد، بينما تفتح هذه الإصلاحات الباب أكثر أمام إمكانيات الطلاق، وهو ما تؤكده المعطيات الإحصائية بشكل واضح.
هل يعني كل ما سبق أن نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ونفرض على العشرين في المائة من نسائنا اللواتي بالكاد حصلن على موطئ قدم في سوق الشغل، مع معاناتهن من جميع أنواع الاستغلال والاستهداف والتضييق، العودة إلى دور ربات البيوت؟ بالتأكيد لا.
لا يمكن أن يختلف اثنان، مهما تعارضت مرجعياتهما الفكرية، على أن المنظومة الاقتصادية العالمية تعاني حاليا تبعات خلل ديمغرافي يكاد يكون شاملا، بعدما التحقت دولة مثل الصين بنادي البلدان المتراجعة ديمغرافيا.
وأمام هذا الوضع، تسعى مراكز التوجيه والقيادة إلى إدخال نصف المجتمعات المتخلفة اقتصاديا إلى السوق للمساهمة في الإنتاج الذي يلبي نزعة الاستهلاك اللامحدود.
ولا جدال أيضا في كون تشجيع انخراط المرأة في سوق الشغل يحقق طفرات تنموية، اقتصادية واجتماعية، أثبتتها الدراسات والنماذج الحية للبلدان التي تقدّمت في هذا المجال.
وبالتالي لا يعقل أن يتعارض حقان: حق المرأة الطبيعي والديني والوضعي في العمل، وحق المجتمعات في الحفاظ على توازنها الديمغرافي الذي يعني توازن ماليها العامة وصناديق حمايتها الاجتماعية وأمنها القومي بما أن القوة العسكرية تستند في جزء من عناصر قوتها إلى المعطى الديمغرافي.
ما الحل إذن؟
الحل يبدأ أولا بإبعاد هذا الموضوع عن الأجندات الأيديولوجية الضيقة، والحسابات الصغيرة لهذا الفريق أو ذاك. ثم يمكننا بعد ذلك فتح أعيننا على تجارب ودراسات علمية تخلّصنا من جحيم المفارقة التي تجعلنا كما لو أننا مرغمون على الاختيار بين انخراط المرأة أكثر في سوق الشغل من عدمه، مثل الدراسة التي أنجزها السوسيولوجي الفرنسي سينغلي فرانسوا، ونشرها في مجلة متخصصة عام 1975، بناء على الإحصائيات السكانية الفرنسية لسنة 1968.
لا تقدم هذه الدراسة جوابا مباشرا عن هذه المعضلة، لكن بين ثناياها عناصر جواب مقنع، حين نلاحظ كيف أن معدل خصوبة النساء ينخفض بالفعل، وبشكل عام، حين تخرجن إلى سوق الشغل. لكن هناك مؤشر هام تقدمه التفاصيل، أي حيث يسكن الشيطان، وهو أن معدل الخصوبة يتأثر أكثر وينخفض بشكل حاد في حالة النساء العاملات في ظروف صعبة ومستويات دنيا، بينما يتحسن هذا المعدل في حالة النساء العاملات في مناصب المسؤولية والأطر العليا للمؤسسات، أي اللواتي تعملن في ظروف مريحة ومحفّزة.
الجواب بسيط في الحقيقة ولا يحتمل كل هذا اللغط:
العمل حق مشروع للجميع وفيه مصلحة كبيرة ومن واجب الدولة والقوانين أن تحفز عليه وتدعمه، لكنه يصبح مفيدا أكثر حين يحاط بضمانات وإجراءات مواكبة لحماية التوازن الديمغرافي، من خلال توفير ظروف مواتية لعمل المرأة، أي بنيات كافية وفي المتناول لرعاية الأطفال خلال ساعات عمل الأم، وتشريعات ضريبية وأنظمة حماية اجتماعية تحفّز على الإنجاب والعمل في الوقت نفسه، أي أن الزوج (المرأة والرجل المتزوجين)، يُعاملان كخط دفاع أول عن الصالح العام والتنمية والأمن القومي، عبر الإنتاج الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وبالتالي ينبغي أن يعاملا ضريبيا وتشريعيا بطريقة تسهّل حياتهما وتعترف لهما بهذا “المجهود الوطني”.