story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
حوارات |

“لا تتركوها وحدها”.. الطبيبة المغربية المزابري: عدتُ من غزة وأنا أحمل جبلاً من المسؤولية – حوار

ص ص

اختارت زينب المزابري أن تترك أمان بيتها وأسرتها لتلتحق بقوافل الإغاثة الطبية المتوجهة إلى غزة، وتكون أول طبيبة مغربية تتمكن من دخول القطاع الذي يعيش أزمة صحية وإنسانية بعد عامين من حرب الإبادة الجماعية. وذلك إيماناً منها بأن الواجب الإنساني لا يعرف الحدود ولا الأعذار.

بعد عودتها من قطاع غزة، يوم الخميس 18 دجنبر 2025، حاملةً معها ما هو أثقل من الحقائب: ذكريات عن الألم، والصمود، والكرامة الإنسانية، التقينا بالدكتورة زينب المزابري، الطبيبة المغربية الأخصائية في أمراض النساء والتوليد، العاملة بالقطاع العام بمدينة ورزازات، وعضو تنسيقية “أطباء من أجل فلسطين”.

في هذا الحوار، تفتح لنا الدكتورة زينب، وهي أم لثلاثة أطفال، قلبها لتروي تفاصيل رحلتها إلى غزة من لحظة اتخاذ القرار، إلى مشاهد الدمار الأولى، مروراً بتجربتها المهنية والإنسانية وسط الحرب، ووصولاً إلى الأسئلة الوجودية العميقة التي غيّرت نظرتها للحياة، والرسالة التي عادت بها من أرض لا تشبه أي أرض أخرى.

إليكم نص الحوار:

  • متى قررتِ الذهاب إلى غزة؟ وما الذي دفعكِ لاتخاذ هذا القرار؟

قررت ذلك منذ الأيام الأولى للحرب، حيث عرضت تنسيقية “أطباء من أجل فلسطين” فتح باب تقديم الطلبات للذهاب، والحمد لله تمت الاستجابة لطلبي. أما لماذا قررت الذهاب، فأنا أعتبر أن الذهاب إلى غزة لمن استطاع هو واجب، واجب إنساني أولاً ثم ديني ثانياً.

  • كيف كانت لحظة وصولكِ إلى القطاع؟ وما أول مشهد استوقفك هناك؟

بصراحة، لا أخفيك أن لحظة الوصول كانت فرحة لا توصف، وكأن حلماً يتحقق على أرض الواقع. أول ما دخلنا غزة كان عبر معبر كرم أبو سالم، وأول ما رأيته مدينة رفح التي سُوِّيت بالأرض بالكامل، وكأنها مدينة مهجورة. انتابني شعور بالقهر والحزن، خصوصاً عندما ترى من الجهة الأخرى الحدود المصرية وعدد الحواجز المرتفعة، من دولة يُفترض أنها دولة عربية مسلمة شقيقة، فكان الإحساس بالغصّة لا يوصف.

  • كيف تصفين تجربتكِ في القطاع المدمر؟ وهل واجهتِ أي مخاطر خلال عملك؟

بالنسبة لتجربتي هناك، فهي كانت تجربة جد رائعة، وكأنني زرت بقعة من بقاع الجنة. ورغم أن الدمار كان هائلاً جداً، فإن ثبات وقوة أهل غزة كانا أكبر وأعظم. شعرت يقيناً أن هذا الشعب مستحيل أن يُهزم. صراحة، لم أواجه أي موقف مهني خطير. العمل كان يمر في ظروف طيبة، مع أناس طيبين، متفاهمين ومتعاونين، وكان الجو العام للعمل جيداً.

  • هل هناك قصة إنسانية لا تفارق ذاكرتك؟

في الحقيقة، كلهم قصص. كل واحد منهم لديه قصة خاصة تعطيك درساً في الحياة، في الصمود، في التشبث بالحياة، وفي الثقة القلبية والعقلية بالله سبحانه وتعالى، وبنصره المحتوم إن شاء الله.

  • كيف كانت تجربتكِ كامرأة في بيئة حرب؟ وهل واجهتِ أية تحديات؟

أظن – والله أعلم – أن هذا السؤال يجب أن يُوجَّه للمرأة الغزاوية التي عاشت ظروف الحرب والموت بشتى أنواعه، وهي ترى أطفالها في خطر دائم. للأم التي تعجز عن إطعام أطفالها الجائعين، وتعجز عن إسكات صراخهم تحت القصف المخيف، وتعجز عن حمايتهم من البرد القارس داخل خيام لا تقيهم لا برد الشتاء ولا حرّ الصيف. إنه أمر صعب جداً على المرأة، خصوصاً المرأة الأم.

لم أواجه أي تحديات، بل على العكس، خصوصاً لأني امرأة. ما رأيته من تعامل الغزّيين مع المرأة أدهشني كثيراً. الجميع كان يحرص على راحة العنصر النسوي، وحتى تعامل الأزواج مع زوجاتهم كان غاية في الرقي والاحترام، وهذا أدهشني فعلاً.

  • على ذكر الأم الغزّية. بصفتك أماً، كيف شعرتِ وأنتِ تتعاملين مع أطفال غزة؟

أصعب شيء في الحياة هو أن تشعر الأم بأنها عاجزة عن حماية أطفالها. قبل ذهابي إلى غزة، كنت أحياناً أضع نفسي مكان الأمهات الغزّيات، وأتخيل أطفالي الأبرياء وهم يلعبون مع بعضهم، وأتساءل كيف كنت سأتصرف لو أصيب أحدهم برصاصة طائشة أو دهس بدبابة، أو حتى كيف سيكون شعوري وهم يسمعون القذائف تنزل فوق رؤوسهم.
كنت صراحة لا أتمالك نفسي من التفكير في ذلك. وعندما ذهبت إلى غزة، أتذكر أنني غمرت أحد الأطفال بيدي وبكيت كثيراً، كأنني أم ذلك الطفل البريء، والطفل بدوره احتضنني وكأنه أراد أن يمنحني ذلك الشعور الذي طالما تخيلته.
كانت عيناه تفيضان براءة وخوفاً في الوقت نفسه. صراحة، هذا الموقف لم ولن أنساه أبداً.

  • كيف كان تفاعل الغزّيين عندما علموا أنكِ طبيبة مغربية؟

كانت فرحتهم كبيرة جداً، وعانيت حينها كيف يكنّون كل الاحترام والتقدير للمغاربة، وكانت فرحتي أكبر لمعرفة ذلك.

  • ماذا عن لحظة المغادرة؟

كانت لحظة صعبة جداً، وكأنك تترك عائلتك محاصَرة جواً وبحراً وبراً، تعيش معاناة يومية: لا ماء، لا كهرباء، لا دواء، يموتون برداً وهم منهكون مما عاشوه من مراحل حرب قاسية. والأمر أنهم لا يعلمون ما القادم، ولا ماذا ينتظرهم، ذلك الغموض المستقبلي شيء مؤلم للغاية.

  • هل تفكرين في العودة؟

بالطبع، فهذا أمر مفروغ منه. فبمجرد أن تلمس قدمك أرض غزة، وتحتك بقلوب أهلها، ترتبط بها ارتباطاً لا تستطيع قطع وصالهه. ولست أنا وحدي من أقول هذا، فجميع الأطباء الذين التقيت بهم هناك، ومعظمهم أطباء أجانب غير مسلمين، يرتبطون ارتباطاً عميقاً بغزة، وبعضهم جاء للمرة الثالثة والرابعة. إنها أرض عجيبة بحق.

  • ما الذي يحتاجه القطاع الصحي في غزة بشكل عاجل اليوم؟

إعادة إعمار المستشفيات بشكل عاجل، فكما تعلمون 94% من المستشفيات دُمّرت كلياً. وكذلك إدخال الأدوية والمعدات الطبية بشكل استعجالي، فهناك آلاف المرضى ينتظرون الإجلاء بشروط جد معقدة، وللأسف يفقد الكثير منهم حياته وهو ينتظر. إضافة إلى ذلك، يجب إعادة تأهيل الناس نفسياً، ليس فقط المدنيين، بل أيضاً الأطر الطبية والتمريضية، فالكل ما زال تحت تأثير الصدمة لما شهدوه من موت ودمار مباشر.

  • على المستوى الشخصي، ماذا غيّرت فيكِ هذه التجربة؟

غيّرت بالنسبة لي الكثير. دخول غزة ليس مثل الخروج منها بالمرة, قبل دخولي غزة، كنت أظن أنني ذاهبة فقط لأسكِت قليلاً من ضميري، أو لأجد شماعة أتشبث بها عند السؤال أمام الله عز وجل. لكنني وجدت نفسي وأنا أغادر أحمل جبلاً من المسؤولية، وكأن ما رأيته سيكون شاهداً عليّ يوم القيامة، وفي حياتي كلها، في كل نفس أتنفسه، وفي كل نظرة أنظر فيها إلى أطفالي وهم في أمن وسلام، بينما إخواننا لا يجدون حتى ما يروي عطشهم. قبل دخولي، كنت أريد أن أطلب من أهل غزة أن يسامحونا، أما عند خروجي فطلبت منهم ألا يسامحونا أبداً، فلسنا أهلاً لذلك.

  • بعد كل ما رأيتِ، كيف تعرّفين اليوم معنى الحياة؟

أدركت أن لا معنى للحياة بدون ضمير حي، ولا بدون قلب مؤمن، ولا بدون هدف يوصلك إلى طريق الله ومعرفته سبحانه وتعالى. الحياة المادية وحدها لن توصلك إلى السعادة ولا إلى الطمأنينة القلبية. هذا المعنى تلمسه حقيقة حين ترى أناساً فقدوا كل شيء، أرضهم وبيوتهم وأحبابهم في لحظة واحدة، ويعودون إلى الله بثقة ويقين. فالحياة، في النهاية، لا معنى لها دون السير في طريق الله سبحانه وتعالى.

  • ما الرسالة التي تحملينها من غزة إلى العالم، وإلى المغاربة؟

أقول إن أهل غزة أمانة في عنق كل مسلم، بل في عنق كل إنسان يحترم إنسانيته. لا تتركوا أهل غزة يواجهون الموت وحدهم، فلو علمتم حجم الخذلان الذي تعرضوا له، لتحسرتم على كل نفس تتنفسونه.