لا بدّ لليل أن ينجلي!

يبدو أن الليل طال في هذا الوطن، حتى صار بعضنا يشك إن كان للفجر موعد حقا. لكن لا بد لليل أن ينجلي، ليظهر وطن جديد تتسع فيه مساحة الأمل ويستعيد الشباب فيه دوره في صناعة مستقبله. الأصوات الصاعدة من الشارع المغربي ليست ضجيجا احتجاجيا كما يسوق له البعض، وإنما هو تعبير عن جيل يطرح سؤالا أساسيا طال غيابه: أي وطن نريد؟
جيل اليوم، جيل ما بعد الألفين، لم يعد يقبل أن يُدار مستقبله بالأساليب القديمة نفسها، ولم يعد مقتنعًا بضرورة الصبر على سياسات أوصلت البلاد إلى هذا المنعطف الحرج. المطالب الاجتماعية أصبحت مرآة تعكس أزمة أعمق من الخبز والشغل، أزمة عقد اجتماعي يبدو أن شرعيته الأخلاقية والسياسية تتلاشى، نتيجة تراكمات الفشل، وتحول سياسات الدولة في بعض الأحيان، من راع للمواطن إلى وسيط إداري بين رأس المال والمجتمع.
جيل ما بعد الألفين نشأ في عالم مفتوح على المعلومة، متصل بالعدالة الكونية، قادر على مقارنة تجارب الشعوب الأخرى بواقعه المحلي. لم يعد مقتنعا بخطاب الصبر الذي كان يُعتبر صفة للكبراء، ولا بحديث الاستقرار الذي لا بديل عنه. يطالب الكرامة أولا، دون انتظار الامتنان من أحد.
الاحتجاج الشبابي الراهن يعبر عن رغبة في استعادة معنى المواطنة الذي ضاع وسط بيروقراطية مزمنة وفساد مستمر. حين يملأ الشباب الشارع أو الفضاء الرقمي بأسئلتهم الحارقة، فهم يرفضون من صادر روح الوطن، ممن حولوا السياسة إلى أداة للزبونية، والوظيفة العمومية إلى امتياز وراثي، والثروة إلى مصدر خاص لمن يحسن خدمة المركز.
والإصلاح التدريجي، الذي طال الحديث عنه، ينظر إليه هذا الجيل مجرد تسويف دائم، والنموذج التنموي الجديد يظهر لهم كإعادة تدوير لنخبة قديمة بثوب لغوي عصري.
ولهذا الجيل قناعة راسخة، بأن الفساد ليس ظاهرة عرضية، بقدر ما هو بنية متجذرة في الاقتصاد والسياسة والإدارة. جزء من آلية الاشتغال وتدبير الشأن العام تحول إلى أداة لإعادة إنتاج الولاءات. الصفقات تُبرم على أساس القرب الاجتماعي لا الكفاءة، المناصب توزع وفق التوازنات لا الاستحقاق، والمشاريع الكبرى تُعلن ثم تُدفن في صمت بعد انتهاء فائدتها الدعائية.
وما يزيد الطين بلة، هو أن ثقافة الفساد وجدت تبريرات واقعية عند البعض، بحجة أن الأمور لا تسير إلا بهذه الطريقة، وتكرّست حلقة الفشل نتيجة استحواذ المستفيدين على موقع الإصلاح ذاته. المغرب لا يفتقر إلى الموارد أو الكفاءات، في الحقيقة يفتقر إلى إرادة سياسية تعيد بناء الثقة في الدولة. بدون مساءلة حقيقية وشفافية مالية وتوزيع عادل للثروة، تظل الشعارات عن النموذج التنموي مجرد واجهة لغسل الصورة أمام الخارج، دون تغيير حقيقي للداخل.
وبما أنني أنتمي لهذا الجيل، دعوني أؤكد لكم أن هناك شرخ عميق بين جيل تشكلت ذهنيته في زمن الدولة الأب، الذي يرى في الدولة سلطة مقدسة لا تُسائل، وجيل يرى أن السلطة وظيفة اجتماعية قابلة للمحاسبة.
جيل ما قبل Z يعتبر السياسة مجالا محاطا بالمحظورات، بينما جيل اليوم يراها ساحة للمساءلة والمشاركة. الوطنية عند الأول تعني الطاعة، وعند الثاني تعني شراكة في صناعة المصير.
وهذا الذي يوضح أزمة التواصل اليوم، حين يتحدث الشباب بلغة المطالبة، ترد الدولة بلغة التحذير، وحين يطرحون سؤال العدالة، يجيب بعض الساسة بسرديات عن الاستقرار. جيل اليوم لا يخاف من المستقبل، لكنه يخشى تكرار أخطاء الماضي.
ودعوني أعيد التأكيد على مشاكل حقيقة، كما حاولنا في كتابات سابقة إبراز مكان الخلل في بلادنا والتي تشكل العمود الفقري للمأساة الاجتماعية، والتي تطالب بها أصوات الشباب اليوم:
التعليم: التفاوت الصارخ بين مدارس النخبة ومدارس الشعب يعمّق الشعور بالظلم، الإصلاحات تتبدل لكن النتائج تتدهور، لأن السياسة التعليمية تدار بمنطق الترقيع دون رؤية استراتيجية.
الصحة: المستشفيات العمومية تتحول إلى محطات عبور نحو العيادات الخاصة، والطبيب المرهق والمريض الفقير ضحيتان لنظام صحي متاهلك ومستمر في فقدان إنسانيته.
التشغيل: الاقتصاد الوطني يخلق الريع أكثر مما يخلق القيمة، تُفتح مباريات محدودة في وجه آلاف الشباب، ويُقدّم الريادة الذاتية كبديل للفقر دون إعداد بيئة حقيقية لدعم المشاريع الصغيرة.
نتيجة هذه الاختلالات، يعيش الشباب إحباطا مزدوجا، بحيث لا يجد الأمل في برامج الدولة، ولا المساندة في السوق، ولا العدالة في السياسات.
أما انتماء الجيل الجديد يتشكل حول الحقوق والكرامة، وليس حول الامتيازات أو الولاء الأعمى. الشباب اليوم لا يكره الدولة، لكنه يرفض الطريقة التي تُدار بها شؤونه، ويريد وطنا يستمع ويصغي، وليس وطنا يملي فقط. فالوطنية تُقاس بالقدرة على مساءلة السلطة رغبة في إصلاحها، واللامبالاة تهدد الأوطان أكثر من الاحتجاج.
فدعونا نجلي الليل، يجب بناء مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع على أساس الصدق والمحاسبة، بعيدا عن الوعود والولاءات. على الدولة الاعتراف بأن جيل اليوم لا يمكن استيعابه بخطاب التخويف أو التبخيس، فهو يطالب بالشفافية والمشاركة مع التوجيه.
والنخب السياسية مطالبة بمراجعة مواقعها قبل أن تفقد ما تبقى من مصداقيتها، فالزمن لم يعد زمن الوجوه الدائمة والخطاب الأبوي. التنمية الحقيقية تبدأ من إعادة بناء الثقة، وحين يشعر الشباب أن أصواتهم مسموعة وأن كفاءتهم مقدرة وكرامتهم مصونة، نستعيد الإيمان الجماعي بجدوى الوطن.
فمهما بدا المشهد قاتما، ما يحدث اليوم في المغرب ليس نذير انهيار، بقدر ماهو علامة حياة. الغضب في الشارع والأسئلة على المنصات الرقمية ليست فوضى، وإنما بحث عن وطن أعدل. ربما تأخر الإصلاح واستُهلكت الشعارات، لكن جيل اليوم لم يفقد إيمانه بأن الليل مهما طال، له موعد للانتهاء.
من رحم هذا الوعي المؤلم ستولد مرحلة جديدة من الكرامة والعدالة والسياسة والفكر والمواطنة، وحينها سنكتشف أن الجيل الذي وُصف بالعزوف والتمرد كان أكثر الأجيال حبا للوطن، لأنه رفض أن يراه يضيع بصمت. الليل وإن طال، لا بد أن ينجلي، ويشرق فجر يليق بهذا الشعب وهذا الوطن!