story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كلّنا عزيز غالي

ص ص

صباح هذا الأحد 05 أكتوبر 2025، استوقفني مشهد لن أنساه: الابن البِكر للمهندس المغربي عبد العظيم بن ضراوي، في مقطع فيديو، يتحدث بالإنجليزية بوجه خال من الارتباك، ويقول لمن يحتجز والده: “أبي ليس إرهابيا. لن أخشاكم. أنتم الإرهابيون لأنكم من يجوّع الفلسطينيين ويمنع عنهم الطعام”. الكلمات بسيطة، لكنها خرجت من قلب تعلّم بسرعة معنى الكرامة.

في صوت ذلك الطفل ما يكفي من البراهين لكي نفهم جوهر هذه القضية: مواطنان مغربيان، عبد العظيم بن ضراوي وعزيز غالي، مُحتجزان لدى قوة لا تتورع عن خرق القانون الدولي في البر والبحر، ولا عن تحويل التضامن الإنساني إلى جريمة.

قصة عزيز غالي، قبل أن تكون خبر احتجاز تعسفي، أصبحت امتحانا أخلاقيا لضمائرنا. فقد كشف احتجازه وجها قبيحا عند بعضنا: قلة من الأصوات بادرت إلى التشهير بالرجل، وتخوينه، والطعن في وطنيته، بل إلى مناشدة سلطة الاحتلال كي تُحاكمه وتُنزل به أقصى العقوبات!

كأن إسرائيل صارت محكمة عدل، وكأن العالم الذي يشهد اليوم على جرائمها في غزة قد أصيب جميعه بفقدان الذاكرة.

إن الخلاف في الأفكار ليس رخصة للتنكّر لبعضنا. والنقد مشروع، بينما الوشاية بأخ لنا عند قوة في الخارج، وسحب الحماية الرمزية عن مواطن في محنة، خط أحمر أخلاقي قبل أن يكون سياسيا.

المغرب الذي نعرفه في كتب التاريخ ودراسات الأنثروبولوجيا وسِيَر الرحالة، لم يكن يوما دولة تتبرأ من أبنائها حين يشتدّ عليهم الخناق. هذه بلاد صاغت واحدة من أبلغ العبارات السياسية في ذاكرتنا الجماعية: الوطن غفور رحيم حتى مع من أخطأ والتحق بالخصوم، فبالأحرى مناضل مدني كل سلاحه هو أفكاره وكلماته.

فمن أين جاء هؤلاء الذين يريدون جرّ دولتنا إلى حضيض لا يليق بها ولا بنا؟

قبل أسابيع، حين سألنا زميلنا محمد البقالي، وهو ضيف علينا في برنامكج “ضفاف الفنجان“، لماذا وجّه نداءه إلى المغرب لا إلى سواه بعد قرصنة سفينة “حنظلة”، قال عبارة تختصر معنى الانتماء: “لم أطلب الضغط على بلدي، بل قلت إنني أطلب من بلدي، وإن بلدي سيقوم بالواجب”.

هذا هو ميزان العلاقة السليمة بين المواطن والدولة: نقد من الداخل، وطلبُ حماية من البيت لا من خارجه.

اليوم، الواجب هو أن تتصرف مؤسساتنا وفق ما يقتضيه القانون الدولي وكرامة الدولة، وأن تضع سلامة مواطنيها فوق كل اعتبار، وألا تسمح لأصوات الغِلّ أن تُملي عليها سلوكا غريبا عن تقاليدها.

في المقابل، كان لافتا ذلك الوجه المشرق لغالبية المشهد الوطني: تضامن واسع من اتجاهات فكرية وسياسية متباينة.

المصطفى الرميد، المحافظُ المرجعية، كتب بتؤدة واحترام عن خصم فكري قديم، مؤكدا أن الاختلاف لم يمنعه من الانتصار لحقّ غريمه في الحرية وصون الكرامة. ونوفل البعمري، الحقوقي اليساري، أعلن بوضوح أن احتجاز عزيز غالي إجراء انتقامي يستدعي الإفراج الفوري وضمان السلامة الجسدية والنفسية.

هذا التواطؤ النبيل على نصرة الحق، على اختلاف المشارب، هو المغرب الذي نريد: بلد تتقدّم فيه المروءة على الخصومة.

من زاوية القانون، القضية واضحة: اعتراض “أسطول الصمود” في أعالي البحار يُعدّ خرقا لقانون البحار واعتداء على مبادرة مدنية سلمية غايتها إيصال غذاء ودواء لأرض تُحاصر منذ سنوات.

واحتجاز النشطاء دون تمكين فوري من محامين ومن مياه نظيفة وعلاج مناسب، ومع ورود شهادات عن سوء المعاملة، يضع سلطة الاحتلال في مواجهة قواعد آمرة في القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.

أما المغاربة، فحقوقهم فوق ذلك محمية بميثاق فيينا للعلاقات القنصلية الذي يضمن إخطار دولهم وتمكينهم من التواصل مع ممثليها.

لا جديد هنا إلا أن على دولتنا أن تتذكّر بما هو بديهي: من حقّنا كمغاربة أن نُستردّ بلا قيد ولا شرط، ومن واجبنا كإخوة في الإنسانية أن نُكمل الطريق نحو غزة بالوسائل السلمية والقانونية.

قد يقول قائل: لكن عزيز غالي شخصية خلافية. أجيب: وهل المواطنة تُقاس بمدى تشابهنا؟ المواطنة عقدُ تضامن وتعاضد وحماية متبادلة، لا اختبارُ ولاء آني.

من أراد امتحان الأفكار فالمجال واسع للنقاش العمومي، أمّا أن يتحوّل الخلاف إلى دعوة لتسليم مواطن لجلاد قتّال، فتلك منزلقات لا تُترك بلا ردّ.

إن من يهين إنسانا في لحظة أَسْره الغاشم لا يحاكم خصمه، بل يحاكم مروءته.

رجال ونساء ركبوا البحر ليوصلوا حليبا ودواء إلى أطفال محاصرين؛ أيّ لغة غير لغة التكريم تستحق فعلهم؟

وأيُّ ميزان ذاك الذي يساوي بين من يفتح ممرا إنسانيا ومن يقطع عن الناس قوتهم وشفاءهم؟

لسنا هنا في دفتر السياسة وحدها؛ نحن في سؤال الضمير.

ولأن هذه المقالة ليست بيانا دبلوماسيا، دعوني أقولها بلا مواربة: كلّ صوت يطلب من دولة الاحتلال أن تُحاكم مغربيا لمجرد أنه ناصر الحقّ في الحياة والكرامة، إنما يطعن وطنه في الظهر.

وكلّ مؤسسة تُقايض حماية مواطنيها بحسابات صغيرة، إنما تهين ذاتها قبل أن تهينهم.

لكنني مطمئن: دولتي، التي لم تتخلّ يوما عن أبنائها، لن تمنح خصومها هذا الرضا الرخيص.

سيعود عزيز، وسيعود عبد العظيم، وسنقرأ في شهادتهما أن بلدهما لم يبعْهما للصهاينة كما تمنّى البعض، بل فتح لهما باب البيت كما يليق.

أعرف عزيزا بما يكفي لأجزم: الرجل لن ينكسر. ما تعلّمه في مسيرته الحقوقية من صرامة ووضوح، سيحمله اليوم في زنزانته كما حمله في قاعاته وندواته.

وأعرف هذا البلد بما يكفي لأقول: حين تتكلم المروءة بصوت واحد، يتراجع القبح إلى هامشه الطبيعي.

هذا ليس وقت تسجيل النقاط ولا تصفية الحسابات القديمة؛ هذا وقت أن نقف صفا واحدا خلف قيم لا تعيش إلا إذا دافع عنها المختلفون معا.

لنتذكّر صورة ذلك الطفل مرّة أخرى. لم يسأل إن كان أبوه يساريا أو محافظا، ولا إنْ كان خصومُ أبيه ساخطين عليه. قال ببساطة: أبي ليس إرهابيا. تلك الجملة، في براءتها ورجولتها المبكّرة، هي شعارنا اليوم.

كلّنا ذلك الطفل. كلّنا عبد العظيم ضراوي. كلّنا عزيز غالي.

ولأن الكُتّاب يَدينون للناس بكلمة تُسكّن بعض الألم: إلى الذين هلّلوا لرسائل الوشاية، تريّثوا. غدا حين يعود الرجلان -وسيعودان- لن يبقى من صخبكم إلا العار.

وإلى الذين اختلفوا مع عزيز في الفكر ثم وقفوا معه في المحنة، شكرا لكم على درس عملي في معنى الوطن.

وإلى مؤسسات الدولة: افعلوا ما ينبغي فعله، لا لينتصر طرف على طرف، بل لينتصر المغرب على كل ما يخرجه من نفسه.