story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“كل العرب ببلاش.. ما فيش وطن”

ص ص

شاهدتُ مرارًا وتكرارًا مشهدًا قصيرًا من فيلم “الزمن الباقي” للمخرج إيليا سليمان، تداولته مواقع التواصل الاجتماعي، لا تتجاوز مدته بضع ثوانٍ، لكنه بقي حاضرًا في ذهني، كأنه يختصر عقودًا من الخيبات والانكسارات التي عاشها الإنسان العربي.

يظهر في المقطع طفل صغير يبيع الصحف في أحد شوارع المدينة، يحمل نسخًا من جريدتين: الأولى بعنوان “الوطن”، والثانية بعنوان”كل العرب”.

يسأله أحد الجالسين في مقهى شعبي:
_ “أعطني الوطن”

فيقلب الطفل ما لديه، ثم يرفع رأسه معتذرًا:
_ “ما فيش وطن… خلصت”.

فيأخذ الرجل جريدة “كل العرب”، بينما يتابع الطفل نداءه للمارّة: “كل العرب ببلاش…”.

لن أتوقف عند مشهد الطفل القاصر الذي فرض عليه واقعه القاسي أن يتجول في شوارع المدينة بحثًا عن لقمة العيش، في حين أن مكانه الطبيعي هو مقعد دراسي في مدرسة، وسقف يأويه بكرامة. هذا التناقض وحده كفيل بأن يضعنا أمام أسئلة أخلاقية وسياسية لا يمكن تجاهلها، حول ما نقدمه لأطفالنا، وما نتركهم يواجهونه وحدهم.

قد يبدو هذا المشهد في ظاهره عابرًا، مجرد لقطة يومية من حياة الباعة الجائلين. لكنه في جوهره يتجاوز اللحظة الآنية، يعكس واقعًا أكثر اتساعًا وعمقًا، يحمل في طياته رمزية مؤلمة لحال أوطان تتداعى، وهوية عربية تفقد بريقها وسط أزمات لا تنتهي.

الطفل الذي لم يجد “الوطن” ليبيعه، هو اختزال لمأساة شعوب بأكملها تبحث عن أوطانها المفقودة، الممزقة، أو تلك التي غابت فيها العدالة، وغرقت في الاستبداد. أما عبارة “كل العرب ببلاش”، فهي تذكير مرير بتراجع دور الإنسان العربي، وتآكل مكانته ووزنه، ليس فقط على الساحة الدولية، بل أحيانًا حتى داخل وطنه.

في هذا المشهد تتجلى كذلك أوجاع فلسطين، القضية التي ما زالت تنزف منذ أكثر من سبعة عقود، في ظل انسداد الأفق السياسي، وانقسام داخلي، وتفاعل دولي انتقائي. “ما فيش وطن” ليست فقط جملة عابرة؛ بل تعبير عن حال شعب اقتُلع من أرضه، يُحاصر ويُقتل في غزة والضفة، ويُمزق في الشتات، بينما العالم يراقب بصمت، والدعم العربي الرسمي يتراجع إلى حدود الشعارات.

لكن المأساة لا تقف عند فلسطين وحدها. فمشهد الفقد يتكرر في أكثر من بقعة عربية، حيث صار الوطن في كثير من الأحيان مجرد جغرافيا بلا عدالة، أو سلطة بلا مساءلة، وأصبحت العروبة مشروعًا غائبًا، لا يجتمع حوله إلا الخطاب الرسمي، دون فعل حقيقي أو إرادة جماعية.

اللافت أن الجريدتين اللتين يحمل الطفل اسميهما – “الوطن” و”كل العرب” – أصبحتا رمزا لفقدان الجوهر. فالوطن غائب، والعرب، وإن اجتمعوا في اللغة والتاريخ، باتوا متباعدين في المصالح والقرارات، وغارقين في أزمات متتالية تعوزهم فيها الوحدة السياسية الجامعة.

ومع كل هذا، يبقى المشهد دعوة للتأمل لا مناسبة للندب. فإعادة بناء مفهوم “الوطن” تتطلب إعادة الاعتبار لقيم المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، كما أن استعادة العروبة لا تمرّ عبر البيانات والخطابات، بل عبر التعاون الفعلي، والانفتاح، والتكامل في مواجهة التحديات المشتركة.

الطفل الذي يبيع الصحف اليوم، يجب أن يكون في المدرسة، يقرأ ويكتب، ويحلم بمستقبل آمن. حين نمنحه هذا الحق، نمنح أنفسنا فرصة لبناء مجتمعات أكثر عدلًا وإنسانية، ونكون قد بدأنا بالفعل باستعادة الوطن، لا كعنوان على ورق، بل كحقيقة يعيشها الناس.

وحتى ذلك الحين، قد تبقى عبارة “ما فيش وطن” تتردّد في الأزقة والشوارع، لا كتعبير عن نفاد الصحف، بل كمرآة لواقع نحتاج إلى تغييره، قبل أن يتحول إلى مصير دائم.