قُبلة (الموت) الفرنسية

الرجل الذي فاوض بريطانيا باسم 27 دولة المنتمية إلى الاتحاد الأوربي على مدى أكثر من أربع سنوات قبل البريكسيت، وحقق نتائج يمدحها الجميع، لم يكمل حتى فترة ثلاثة أشهر التي يقضيها الموظف الجديد كمرحلة اختبار قبل الترسيم.
هكذا علّق ظرفاء منصات التواصل الاجتماعي على سقوط حكومة ميشال بارنييه عبر ملتمس رقابة غير مسبوق في التاريخ الحديث لفرنسا. منذ العام 1962.
هذا الأخير الذي عُيّن من طرف الرئيس إيمانويل ماكرون لتتويج عملية التفاف واحتيال على نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي مستهل الصيف الماضي، خرج من الباب الضيّق قبل حتى أنت تتعرف عليه محركات البحث أو تظهره ضمن النتائج المقترحة على الباحثين عن هوية وسيرة الوزير الأول الفرنسي.
ففي لحظة كتابة هذه السطور، ما زالت موسوعية “ويكيبيديا” الرقمية، في نسختها العربية، تحتفظ باسم إليزابيث بورن كوزيرة أولى لفرنسا.
درس جديد يقدّمه لنا كتاب العالم المفتوح على الكثير من التحولات والمخاضات هذه الأيام، إيذانا بقرب ميلاد “حالة” جديدة سينتقل إليها الإنسان، راضيا كان أو مكرها، بعدما انهار النظام القائم منذ الحربين العالميتين للقرن الماضي، وما أسفر عنه من تأكيد لتفوّق وسمو النموذج السياسي الغربي…
ها هي ذي كوريا الجنوبية، إحدى واحات هذا الغرب السائر نحو الأفول، تعيش على إيقاع الأحكام العرفية وشبه الانقلاب الذي قام به الرئيس على البرلمان.
ففي عالم يتسم بتعقيداته الاقتصادية والسياسية، تبرز أزمات الديمقراطيات الغربية كنماذج صادمة لتحولات عميقة تلامس جوهر الاستقرار في بعديه الوطني والدولي.
وسقوط الحكومة الفرنسية نتيجة تصويت بحجب الثقة، والاصطدام السياسي العنيف بين الرئيس والمعارضة في كوريا الجنوبية، كلاهما يعكسان أزمة ثقة بين الشعوب ونخبها الحاكمة، كما يقدمان دروسا ثمينة للدول الصاعدة، ومنها المغرب، حول أهمية إدارة الأولويات الاقتصادية والاجتماعية بطريقة تعزز التماسك الداخلي.
التجربة الفرنسية تحديدا، لقربها الجغرافي و”الوجداني”، تمثل مثالا صارخا على هشاشة الأنظمة السياسية في مواجهة غضب شعبي متعاظم. وأزمات إصلاح التقاعد والاضطرابات الاجتماعية أظهرت أن الشعوب لم تعد مستعدة لتقديم تضحيات اقتصادية دون مقابل واضح في تحسين جودة الحياة.
سقوط حكومة بارنييه الفرنسية جاء نتيجة مباشرة لاستراتيجية سياسية قامت على تجاوز الإرادة الشعبية باستخدام أدوات دستورية مثيرة للجدل، مما أفرز استقطابا سياسيا وشعبيا حادا. وضع يعيدنا إلى سؤال محوري حول دور المؤسسات الديمقراطية في استيعاب الأزمات الكبرى وضمان ألا تتحول إلى أزمات تهدد استقرار الدولة.
في الجهة الأخرى من العالم، تتكرر القصة، ولكن بتفاصيل مختلفة: كوريا الجنوبية، التي تُعد من أبرز الديمقراطيات الناشئة في آسيا، تواجه هي الأخرى أزمة سياسية معقدة. الاصطدام بين المعارضة والرئيس حول قضايا سياسية واقتصادية يبرز تحديات التوفيق بين أجندات سياسية متباينة وتوقعات شعبية عالية.
في كلتا الحالتين، يظهر أن الديمقراطية، في بعدها الشكلي والإجرائي، لا تُغني عن الحاجة إلى مؤسسات قادرة على تحقيق التوازن بين مختلف مكونات المشهد السياسي، وبين تطلعات المواطنين ومتطلبات السياسات العامة.
والملاحظ أن هذه الأزمات السياسية الحادة، في فرنسا وكوريا الجنوبية وعدد آخر من الدول، ترتبط بشكل مباشر بلحظة سياسية واقتصادية خاصة، تتمثل في مناقشة ميزانية العام المقبل بما تنطوي عليه من اختيارات تنعكس مباشرة على حياة المواطنين.
عندنا في المغرب، حيث تجري مناقشة ميزانية 2025 وسط تحديات اقتصادية واجتماعية كبرى، تبرز أهمية استلهام العبر من هذه التجارب. وتعكس ميزانية المغرب للعام المقبل طموحات كبيرة، مع تخصيص استثمارات ضخمة في قطاعات البنية التحتية والطاقة النظيفة والتحضير لاستضافة كأس العالم 2030.
لكن التحدي الأكبر يكمن في ضمان أن هذه المشاريع تخدم الأهداف التنموية الحقيقية ولا تتحول إلى أولويات تسويقية تخدم النخب ومراكز النفوذ والمصالح على حساب الفئات الأكثر هشاشة.
درس الديمقراطيات الغربية هنا واضح: تجاهل الأزمات الاجتماعية أو المبالغة في فرض سياسات اقتصادية غير شعبية يمكن أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، حتى في النظم التي تمتلك مؤسسات ديمقراطية متطورة.
كما يواجه المغرب اختبارا في قدرته على تحقيق التوازن بين الاستثمار في مشاريع استراتيجية طويلة الأمد وعالية الطموح، مثل تنظيم كأس العالم، ومعالجة القضايا الاجتماعية الملحة مثل البطالة، والتعليم، والصحة.
فبينما تُظهر ميزانية 2025 اهتماما لا يمكن إنكاره بدعم التشغيل وتحفيز الاستثمار الخاص، فإن هذه الجهود تحتاج إلى أن تكون مصحوبة بخطط شاملة لمعالجة الجذور الهيكلية للأزمات الاقتصادية، وعلى رأسها الفساد الذي يصرّ البعض على إنكاره، بينما هو ينخر جسمي الدولة والمجتمع معا.
الدرس المستفاد هنا أن التماسك الاجتماعي لا يمكن تحقيقه بمجرد إنفاق حكومي ضخم، بل يتطلب سياسات متكاملة تستجيب لتطلعات المواطنين وتضمن عدالة توزيع الفرص والموارد، وتحقق ذلك الشعور الجماعي بوجود أجندة إصلاحية موثوقة وتتحمل طموحات وانتظارات الجميع.
عندما ننظر إلى ما يجري في الديمقراطيات الغربية من زاوية أوسع، يمكننا القول إن الأزمات الحالية ليست دليلا على فشل الديمقراطية بقدر ما هي دعوة لإعادة تقييمها وتطويرها. وبالنسبة للدول الحالمة مثل المغرب، فإن التحدي يكمن في بناء نموذج سياسي واقتصادي خاص يوازن بين التقاليد المحلية ومتطلبات العصر.
لقد حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منح قُبلة الحياة لعهدته الرئاسية، من خلال دعوته المفاجئة إلى انتخابات مبكرة عقب الانتخابات الأوربية التي كشفت عن صعود كبير لليمين المتطرف، محاولا إحداث جبهة موحدة لمواجهته، فكانت النتيجة خروج خصم سياسي جديد من تلك الانتخابات، وهو اليسار المتكتّل خلف جان لوك ميلونشون.
وباعتباره رئيسا فرنسيا، لا شك أن ماكرون اختارها “قبلة فرنسية” بكل ما تنطوي عليه من معان، لتجديد دماء السلطة وإنعاش علاقتها الفاترة معه؛ فتبيّن بعد أسابيع قليلة أنها كانت قبلة الموت، أي تلك القبلة المتعارف عليها في ثقافة المافيا، حيث يخبر الزعيم من اكتشف خيانته بقرار إعدامه، عبر منحه تلك القُبلة الأخيرة.