قصة “الانقلاب” الفلاحي

كان المغرب بإمكانياته الطبيعية والمادية المتواضعة، وحسناته وعيوبه التدبيرية، يمضي في اتجاه تطوير وتقوية فلاحته البسيطة والمعيشية التي تضمن غذاء مواطنيه، ووضع لذلك مخططا بدأ في 1995 واعتُمد رسميا في 1999، وكان يفترض أن يستمرّ العمل به إلى غاية 2020؛ قبل أن يأتي مخطط المغرب الأخضر، ويحدث “انقلاب” على هذا المخطط، ويستحوذ 3 في المئة من الفلاحين المغاربة الكبار، الذين يملكون أراض تفوق مساحتها 50 هكتارا، على 99 مليار درهم من أصل 113 مليار رصدتها الدولة لدعم الفلاحة، ليطوّروا قدراتهم الإنتاجية ويشفطوا المياه الجوفية، ويتركوا لباقي الفلاحين الصغار والمتوسّطين الفقر والجفاف، ولعموم المغاربة الندرة والغلاء.
هذه قصّة واقعية جدا، بل وحقيقية، بما أنها وردت من جديد وضمن وثيقة رسمية أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وكشف عنها يوم أمس، بعدما تمّت “الإطاحة” برئيسه السابق، الاتحادي أحمد رضا الشامي، وجيء بالرئيس الجديد، الإسلامي عبد القادر اعمارة، المحسوب ظُلما وعدوانا على عزيز أخنوش.
كانت ابتسامة خفيفة تنفلت مني صباح أمس، وعبارة “الدولة العميقة نعمة” التي قالها وزير الدولة السابق المصطفى الرميد في ضيافتنا تحضرني، وأنا أتابع أشغال الجلسة التي نظّمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لتقديم خلاصات تقريره الجديد حول الفلاحة العائلية الصغيرة والمتوسطة.
فالذي تفتّقت عبقريته على اقتراح هذا الموضوع يستحق أكثر من جائزة، لأنه سمح بالالتفاف على متاريس وحواجز شاهقة ظلّت تحيط بتقييم مخطط المغرب الأخضر، وقدّم فكرة تسمح باستخراج الخلاصة الأساسية لحصيلة هذا المخطّط، وهي تدميره للفلاحة المغربية، ممثلة في القسم الأكبر من الفلاحين والاستغلاليات الفلاحية، وتسبّبه في نضوب مياه الفرشات المائية، وتراجع الإنتاج الوطني من المواد الغذائية الأساسية، من زرع وضرع.
كنت أبتسم أيضا لأن العقلية الرئاسية التي يتّسم بها سلوك الشخصية المتصدّرة للمشهد السياسي حاليا، عزيز أخنوش، ودعونا نقول “رئاسية” تهذيبا للعبارة كي لا نضطر لاستعمال كلمات قد تكون أكثر دقة مثل “عقلية الباطرون”، الذي لا كلمة تعلو فوق كلمته؛ (هذه العقلية)، جعلت أخنوش يعتقد أن أحمد رضا الشامي استيقظ في أحد الأيام، وقال: اليوم سأنشر تقريرا حول فئة الشباب “NEET“، أي الذين لا يدرسون ولا يعملون ولا يخضعون لأي تدريب مهني، لأن رئيس الحكومة سيمثل أمام البرلمان، وسأشوّش عليه وأحرجه.
تذكّرت ذلك وأنا أتابع كلمة عبد القادر اعمارة، الرجل الذي ظُلم في قصة شقة اشتراها، أو استكمل شراءها، خلال فترة توليه مهمة حكومية إلى جانب عزيز أخنوش، وصادف أن هذا الأخير هو مالك الشركة المالكة للإقامة السكنية، وحصل منها على تسهيلات نظير تحمّله تأخيرا تسليمه شقّته، ينطق بما يمكن اعتباره بمثابة إدانة باتة ونهائية لمخطط المغرب الأخضر، باعتباره مسؤولا عن تهميش الفلاحة الصغيرة والمتوسطة، بل وعن تعميق معاناتها جراء التحديات المناخية والإنتاجية.
المنطق المؤسساتي، رغم كل الأعطاب والثغرات والاختلالات، ما زال قادرا على الصمود في وجه العواصف العاتية، بما فيها تلك التي يقف وراءها أخنوش أو ما يمثّله.
فماذا قال التقرير الجديد للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؟
تخبرنا الوثيقة أولا، ومن حيث الشكل، وهو مهم للغاية في سياقنا الحالي، أن قرار دراسة موضوع الفلاحة الصغيرة والمتوسّطة، اتّخذ في الدورة 163 العادية، المنعقدة بتاريخ 31 أكتوبر 2024. أي أننا أمام استمرارية لعمل مؤسساتي لا علاقة له بذهاب رئيس ومجيء آخر.
أما من حيث المضمون، فالتقرير يشرح لنا كيف تتركز أنشطة الفلاحة العائلية الصغيرة والمتوسطة أساسا في الاستغلاليات الفلاحية التي تقل مساحتها عن 5 هكتارات، والتي تشكل حوالي 70 في المائة من إجمالي الاستغلاليات الفلاحية، وتساهم “في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي للأسر القروية، كما تُمكن من تصريف فائض الإنتاج في الأسواق الأسبوعية وأسواق القرب”.
وإلى جانب دورها الإنتاجي، تضطلع الفلاحة، التي يسمّيها التقرير ب”العائلية الصغيرة والمتوسطة” بعدة وظائف أخرى، منها توفير فرص شغل لنسبة مهمة من الساكنة النشيطة الفلاحية التي تتكون في معظمها من عاملات وعاملين عائليين، إذ يشتغل ما يقرب من 50 في المائة من اليد العاملة الفلاحية في استغلاليات تقل مساحتها عن 3 هكتارات (عن أي تشغيل يتحدّث مخطط الفلاحين الكبار؟)، وهو ما يساهم في الحد من الهجرة القروية ويشجع على استقرار الساكنة.
هذا النوع من الفلاحة يحافظ على النظم البيئية، من خلال مساهمته في التدبير المستدام للموارد الطبيعية وتعزيز قدرة الاستغلاليات الفلاحية على الصمود. لتخلص الوثيقة إلى أن أدوار وآثار هذه الاستغلاليات الصغيرة والمتوسطة لا يتم تثمينها وتطويرها بالقدر الكافي ضمن استراتيجيات التنمية الفلاحية والقروية.
بل إنها أصبحت تحت تهديد أكبر للتحديات المناخية وموجات التضخم العالمية وجشع الوسطاء و”الشناقة”.
صكّ الاتهام الذي دبّج أعضاء المجلس بداياته في عهد الشامي ووقّع عليه اعمارة، يشير مباشرة ودون لغة خشب إلى مخطط المغرب الأخضر، ويقول إن السياسات العمومية الوطنية في مجال التنمية الفلاحية والقروية “لم تستهدف بالقدر الكافي والناجع فاعلي الفلاحة العائلية الصغيرة والمتوسطة، بما يعزز انخراطهم في دينامية التنمية القروية، ومساهمتهم في تحقيق الأمن الغذائي”.
وتستشهد الوثيقة بالمعطيات الرقمية، التي تقول إن حجم الاستثمارات التي تم تخصيصها لتمويل مشاريع الفلاحة التضامنية التي يزاولها أساسا فلاحون عائليون، قد بلغ نحو 14.5 مليار درهم مقابل حوالي 99 مليار درهم بالنسبة للفلاحة الكبرى.
أكثر من ذلك، يقول التقرير إن الجهود المبذولة لتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وتحسين ظروف عيش الساكنة وخاصة في المناطق الجبلية والمعزولة، حيث توجد غالبية الأراضي التي يتم استغلالها في إطار الفلاحة العائلية الصغيرة والمتوسطة؛ “لم تحقق بعد آثارها المنشودة على مستوى التنمية البشرية واستقرار الساكنة القروية ، وبروز أنوية لطبقة وسطى قروية، والرفع من جاذبية المجال القروي”.
ماذا تعني هذه الفقرة الأخيرة؟
إنها تعني وبكل بساطة أن عزيز أخنوش رسب حتى في الدورة الاستدراكية التي أتاحها له الملك ذات يوم جمعة 19 أكتوبر 2018، وبشكل استثنائي، وبعد الوقوف على نتائج مخطط المغرب الأخضر الكارثية في الغالب، وفي وقت كان فيه الرجل مجرّد وزير للفلاحة، ليعبّر له عن “آماله وطموحاته في عالم قروي متميز بخلق أنشطة جديدة مدرة لفرص الشغل والدخل، لا سيما لفائدة الشباب” يقول بلاغ للديوان الملكي، والذي أعلن أن سبب نزول الاستقبال هو توجيه أخنوش نحو “شجيع انبثاق طبقة وسطى فلاحية”.
اليوم، ونحن في أواسط العام 2025، وبعدما شارف أخنوش على إنهاء ولاية كاملة على رأس الحكومة، يتجلى المشهد الفلاحي كالتالي:
• 3 في المئة من الفلاحين المغاربة يستحوذون على 16 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة في استغلاليات تفوق مساحتها 50 هكتارا، ويجنون لوحدهم 32 في المئة من مجموع القيمة المضافة الفلاحية للمغرب؛
• 27 في المئة من الفلاحين المغاربة، وهم “المتوسّطون”، يستغلون 59 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة لكنهم لا يجنون سوى 39 في المئة من القيمة المضافة؛
• 70 في المئة من الفلاحين المغاربة، وهم الصغار، يتزاحمون في 25 في المئة من الأراضي الصالحة للزارعة، ويتقاسمون 29 في المئة من القيمة المضافة الفلاحية.
والسبب؟
الجواب طويل ومعقّد وفيه الكثير من العبارات التقنية، لكنّه وكما تعكسه الوثيقة المدعومة باستطلاع رأي شاركت فيه غالبية من سكان البوادي المغربية، هو عدم ولوج غالبية الفلاحين المغاربة للتمويل عبر القرض الفلاحي، وصعوبة استفادتهم من التأمين عبر “لامامدا“، وهو ما جعل نصيبهم أقل من 15 مليار درهم منذ بداية مخطط المغرب الأخضر، مقابل 99 مليارا للفلاحين الكبار المحظوظين.
وفي جذور القصة ما شهده القطاع الفلاحي في عقد التسعينيات من دينامية تمثلت جينها في سياسة تنمية المناطق البورية لدعم الفلاحين الصغار والمتوسطين. “وقد أسفر هذا التوجه عن اعتماد استراتيجية التنمية الفلاحية والقروية 2020 سنة 1999. إلا أن هذه الاستراتيجية تم تعويضها في الفترة 2008-2007 بمخطط المغرب الأخضر، الذي أعاد تحديد أولويات السياسة الفلاحية لبلادنا”، يقول تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
فهمتهم الآن قصة “الانقلاب” الذي حصل في سياساتنا الفلاحية؟
“إيوا تعضّ ولا نعضّ؟”