story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

قارعو الأجراس

ص ص

المغاربة يجنحون، أغلب الأمر، إلى السِّلمية خلال تعبيراتهم الاحتجاجية، ونَدَرَ أن تستحكم نزوع العنف. ويمكن تفسير هذا من منظورات مختلفة في العلوم الإنسانية، ولعّل كتابات وحوارات السوسيولوجي المختص في علم الاجتماع الحضري، عبد الرحمان رشيق، من بينها حوارٌ ثريٌ مع مجلة “زمان” (نونبر 2021)، يفيد لهذه الغاية، وهو يشرح كيف انتقل المغرب من حالة التمرّد إلى الاعتصام، فشَكْلَ التظاهر في المجال العام.

وثانيا، يمكن أن نرصد تحولات في أنماط احتجاج المغاربة، باعتباره وسيلةَ تبليغٍ وجهداً جماعيا ضمن المحاورة المجتمعية السياسية في الشارع خارج المؤسسات، ممن لا يملكون إلا الشارع وسيلة لإسماع الصوت.

وهذه التحولات انتهت، في السنوات الأخيرة، إلى إنتاج فعل احتجاجي انتقل مرحليا، ومنذ حراك الريف وجرادة، من المناطقية إلى القطاعية. وإنْ تجرّأ كاتب هذه السطور على الباحثين لاستخلص أنها، أولا، احتجاجات تنبثق أكثر فأكثر من خارج أنساق الإيديولوجيا (دون أن تكون بعيدة عن الإيديولوجيا أو تعني موت السياسة)، وثانيا كونها احتجاجات تتخفّف باستمرار من لوازم القيادة المعلومة إلى “قيادة سائلة” لتدبير معركة محدودة النطاق والزمان (وإن اتُّهمت أطراف بالرّكوب على الاحتجاج). وثالثا، هي احتجاجات تنضج شروطها أولا في الرقمي، ثم تتحوّل بالتراكم إلى المادي/ “الواقعي”.

ومنذ سنوات أيضا، وبالتوازي، يمكن أن نرصد نوعاً من التغيّر في تعامل الحكومات مع الاحتجاجات، مَعْلمه الأساس “الصعود للجبل”، حيث تشعر أن زمن استشعار “المسؤولية السياسية” لمنع تراكم الاحتقان، والحرص على التجاوب مع الفعل الاحتجاجي، قد انتهى أو في طور التلاشي، وأنّها الدولة تضع أكثر فأكثر حُشْوة شديدة السّماكة في أذنها حتى لا تسمع ما يتردّد صداه في الشارع، وتتصرف وفق مبدأ “نحن الأدرى بـ متى نُعطي ومتى نمنع”.

وخُذْ عندك الأخيرة. سنة بيضاء في كلية الطب والصيدلة، بما يعني أن عاما في عمر 25 ألف طالب وكل الموارد المرصودة لتعليمهم ذهبت هدراً، ومع ذلك تَصَعْد الحكومة الجبل وتنتظر، ضمن تكتيك مكرّر، حتى “تبرد الرؤوس”. هذا سلوك يمكن رصده منذ 2016 على الأقل، بعدما جرى تجاوز ضغوط 2011 وآثارها، ودخلنا “مرحلة انغلاق جديدة” منذ 2013 (بتعبير رشيق، في حوار مع موقع (لكم) في 2022).

ونفس النهج يمكن رصده في أداء الحكومات خلال احتجاجات الأساتذة المتدربين، ومع الأساتذة المتعاقدين، ومع طلبة الطب في 2019، ثم هذا العام حين بقيت المدرسة العمومية “خاوية على عروشها” لأكثر من نصف موسم قبل يعود الأساتذة بـ”الإكراه” بعد توقيفات وعقوبات، ثم تتفتّق “العبقرية” عن نوعٍ من “التنْجيح” بنسب عالية تصيب بالدوخة والذهول، وقتما يدرك الجميع أن تلاميذ المدرسة العمومية “قراو قراية على قد الحال”. والآن إضراب كليات الطب والصيدلة.

هذا مما تُسعف الذاكرة لاستحضاره، وإلا فإن الفكرة صارت تتوضّح باستمرار حتى تنتهي إلى أن الدولة تصبح أقلّ إصغاء، وأنها تختار لعبة عضّ الأصابع مع مواطنيها، في انتظار نضوج “شروط إذعان”. وبهذا المنطق جرى وقف احتجاجات الأساتذة بأضرار لم يتوقّف أحد لتقييمها، وبعد سنوات سندرك فداحتها في فوارق هائلة بين “محظوظين” انتشلوا أبناءهم من مدرسة عمومية لم تُغادر التجريب، ومغبونين “لا حول ولا قوة لهم” تُركوا لحسابات مهووسة بأزعومة “الدولة الغالبة”.

لربما يكون مهما فحص فرضية وجود نوع من التعنّت يتنامى في سلوك الدولة خلال التعامل مع التعبيرات الاحتجاجية المطلبية، ورصد خطوط ناظمة لهذا المسلك، وتأثيراته على أشكال العلاقات بين المجتمع والدولة، لكن الملاحظةَ تُسعف المتابِع ليتبيّن معالم نمط معيّن، وقد استفحل منذ ما بعد حراك الريف.

جزءٌ من هذا النمط صار يفرز حقائق قد تبدو هامشية، لكنها مؤثرة. ففي كثير من المرات، طيلة السنوات الأخيرة، جرى الزجّ بالمؤسسة الأمنية في فِعْل المفاوضة المجتمعية بعد انسحاب وإضعاف الوسائط، وبعد شعور الحكومات السياسية بنوع من الارتياح على “رأس الجبل” وعدم استشعار أي ضرورة لاستعجال الحلول، إذ صارت تترك الأمور تجري وفق مقاديرها الأمنية، ولا تتدخل كما يُفترض في حكومات مسؤولة عن تأمين الاستقرار المجتمعي والتجاوب المنتج مع التعبيرات الاحتجاجية.

إن انسحاب الفاعل السياسي والحكومي لأرضِ الحوار المجتمعي والتنازل عن واجب تنظيمه وحمايته، والإقحام المستمر للمقاربة الأمنية، هو نوع من الخشونة من منظور المجتمع، وبمنطق المؤسسات هو أمْنَنَة (بوْلسة) للمجال العام، وأيضا استهلاك غير ضروري لجهدٍ في غير محلّه (الإفراط في استعمال “العنف المادي الشرعي” المحتكر من الدولة بمفهوم ماكس فيبر). وهل نذكّر بما جرى في الريف وكيف انتيهنا إلى أحكام سجن قُرُونية (أكثر من 200 سنة) ضد شباب آمنوا بالوطن الممكن؟.

لا أريد أن أتصوّر أننا بصدد ترتيب قواعد جديدة في التعامل مع فعل الاحتجاج، تنزع خلاله الدولة من “الشارع” كل أملٍ لتحقيق مكاسب، فيدرك الناس أنهم بلا صوتٍ، في سياق يتّسم بحالة ركود ومنسوبِ سياسةٍ أقل. “قارعو الأجراس” ضرورة ومصلحة لكل دولة ومجتمع، ولا يخفى كيف أن الاحتجاجات كانت باستمرار تفتح عين الدولة على مواطِن القصور. والآن، على مستحدثي السياسة إذا استشعروا أن الأصوات أعلى من أن تتحمّلها آذانهم، فليتخفّفوا من المسؤوليات، لكن لن يكون مقبولا أن يبقوا ويتهرّبوا من مهمة إيجاد الحلول. وسنة بيضاء في كليات الطب والصيدلة، وغيرها كثير، جريمة لا يمكن تبريرها.