فيتو اعمارة ضد وهبي

لا أعرف من أين ستستمد الحكومة وأغلبيتها البرلمانية الجرأة بعد اليوم، لتتمسّك بالمقتضيات الخاصة بمنع التبليغ عن الفساد ومعاقبته التي يتضمنها مشروع قانون المسطرة الجنائية.
الرأي الذي أصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي هذا الأسبوع، بطلب من رئيس مجلس النواب، كان صريحا وواضحا وطالب بالتراجع عن مقتضيات المادتين 3 و7 من المشروع، واللتان تمنعان الجمعيات من التبليغ عن الفساد، وتشترطان في تلك التي تترك لها هامش حركة في هذا المجال، الحصول على إذن بالتقاضي.
الموقف المؤسساتي الجديد يحمل أكثر من رسالة وينطوي على أكثر من دلالة. فالأمر يتعلّق بمؤسسة ذات تركيبة تعدّدية ومتنوّعة، ويستحيل حصرها في أي خندق إيديولوجي أو سياسي.
والرأي صدر بعد تغيير رئيس المجلس، ورحيل الاتحادي أحمد رضا الشامي، وتعويضه بالإسلامي عبد القادر اعمارة، الذي يحسبه البعض مقرّبا من رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش.
لنبدأ بقراءة ما قاله تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عن المادة 3 من المشروع المعروض على أنظار البرلمان، وهي المادة التي تقول إنه لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك.
وخلافا للفقرة السابقة، يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم المشار إليها أعلاه إذا تعلق الأمر بحالة التلبس…
مقتضيات تثير حسب الرءي الجديد إشكالات جوهرية بشأن مدى ملاءمة التعديل المقترح مع مقتضيات الدستور، ومدى الانسجام مع الالتزامات الدولية للمغرب، ومدى التقائية السياسة الجنائية مع السياسات العمومية الخاصة بالحكامة الجيدة ومكافحة الفساد، ومدى الانسجام مع مقتضيات أخرى في قانون المسطرة الجنائية وتشريعات أخرى.
ويمنحنا التقرير الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لائحة مفصلة بالمرجعيات التي تتناقض معها هذه المادة، وهي كل من:
• الفصل 118 من الدستور الذي يضمن حق الولوج إلى العدالة للجميع من دون تمييز ومع الفصل 12 بشأن أدوار المجتمع المدني؛
• اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي أوصت بمشاركة المجتمع في التبليغ عن الفساد؛
• صلاحيات القضاء في مراقبة تدبير الأموال العمومية وزجر الجرائم الماسة بها، وذلك في انسجام مع مبدأ استقلال السلطة القضائية (الفصل 107)، ودور القاضي في حماية حقوق الأشخاص والجماعات (الفصل 117)؛
• المادتان 40 و49 من قانون المسطرة الجنائية التان تمنحان صلاحيات واسعة للنيابة العامة التي تتلقى المحاضر والشكايات والوشايات وتتخذ بشأنها ما تراه مناسبا؛
• الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي سطرت برنامجا خاصا بتقوية المتابعة والزجر في إطار تفعيل الهدف الإجرائي المتعلق ب”توسيع وتجويد آليات الإبلاغ والنشر في مجال مكافحة الفساد”؛
• أحكام القانون الجنائي الذي يعاقب كل شخص بعدم التبليغ عن جريمة علم بوقوعها (الفصلان 209 و299 من القانون الجنائي).
ويذكّر التقرير أن القانون الجنائي يتضمن عقوبات صارمة ضد من ثبتت ضده تهمة الوشاية الكاذبة أو القذف أو الابتزاز، وهي عقوبات يمكن تفعيلها ضد من يحاول توظيف العدالة لغرض ما بسوء نية. أي أنه لا مجال للدفع بحجة ممارسة الجمعيات المدافعة عن حماية المال العام للابتزاز والتشهير.
كما اقترح التقرير مراجعة القانون المتعلق بالجمعيات بما يرسخ معايير الحكامة الجيدة في تسييرها ويسد الطريق على الانحرافات المحتملة، وبالتالي تنتفي جميع الذرائع الممكنة لمنع الجمعيات من التبليغ عن الفساد،
أما الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 3 التي تفيد أنه يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم الماسة بالمال العام إذا تعلق الأمر بحالة التلبس، فاعتبرها التقرير انطلاقا مما قاله عدد من الفاعلين الذين تم الإنصات إليهم من قبل المجلس، صعبه التفعيل، بالنظر إلى خصوصيات وتعقيدات الجرائم الماسة بالمال العام، وبالاستناد إلى أحكام المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية في ضبط حالة التلبس، أي ضرورة ضبط الفاعل أثناء ارتكاب الجريمة، مطاردة الفاعل بصياح الجمهور…
أما المادة 7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية، التي تشترط على الجمعيات التي ترغب في الانتصاب كطرف مدني في القضايا الزجرية أن تكون حاصلة على صفة المنفعة العامة، وأن تكون قد تأسست بصفة قانونية منذ 4 سنوات على الأقل قبل ارتكاب الفعل الجرمي، وأن تحصل على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل حسب الضوابط التي يحددها نص تنظيمي؛ فاعتبرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي متعارضة مع الأدوار الدستورية للمجتمع المدني والمشاركة المواطنة والفاعلة في قضايا الشأن العام، و”تقييد لما هو مقيد أصلا”، تقول الوثيقة.
هذا الرأي ينبغي أن يكون أكثر من مجرّد حسم لجدل ما كان له أن يحدث أصلا على اعتبار مخالفته الواضحة للمادتين المذكورتين لروح ومنطق الدستور؛ ويجدر به أن ينهي حالة من هدر الزمن المؤسساتي والعبث التشريعي.
فالرأي طُلب من المجلس في عهد الرئيس السابق، وصدر في عهد الرئيس الحالي، ما يعني أننا أمام تعبير عن منطق مؤسساتي يتجاوز الأشخاص والحسابات الصغيرة.
واللجنة الخاصة التي أشرفت على تحضير هذا الرأي، تضم خبراء ونقابيين وممثلين للمؤسسات الدستورية والقطاع الخاص والمجتمع المدني… أي أنها محايدة ومتوازنة.
وأثناء اشتغالها، استمعت اللجنة إلى وزارة العدل، المعني الأول بهذا المشروع، لكنها التقت أيضا بممثلين لرئاسة النيابة العامة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها وجمعية هيئات المحامين والودادية الحسنية للقضاة ونادي قضاة المغرب…
إنه فيتو حقيقي، مؤسساتي وقانوني، ضد المادتين 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية. وإذا حصل وأصرت الحكومة وأغلبيتها على تمريرهما، فإنني لا أعرف بكل صراحة من أين سيأتي نواب ومستشارو الأغلبية الحكومية ب”الوجه” للنظر في أعين الناخبين ومواجهة المجتمع في الانتخابات المقبلة.