في معنى “عيد الوحدة”
يقال إننا نسمي الأشياء بأسمائها حين تكبر فينا. وها نحن أمام اسم يكبر حتى يفيض عن الكلمات: “عيد الوحدة”.
بلاغ الديوان الملكي المعلِن عن هذا العيد الجديد، لم يكن خبرا عاديا، بل كان توجيها لبوصلة أخلاقية وسياسية معا، مفادها أن ننتقل من ذاكرة المسيرة إلى فكرة المصالحة، ومن نشيد الأرض إلى أنشودة الإنسان.
من حقّنا أن نفرح، لكن من واجبنا أن ننتبه. لقد نِلنا اعتراف العالم بإطار الحل داخل سيادتنا، لكن السيادة ليست رايةً تُرفع فحسب؛ بل هي مسؤولية تُقام.
“عيد الوحدة” ليس طبعة منقّحة لذكرى المسيرة الخضراء؛ بل تربية وطنية شاملة على معنى أن تنتصر دون أن تذلّ أحدا، وأن تنتقل من منطق الغلبة إلى منطق جبر الخاطر، وجبر التاريخ، وجبر النفوس التي شقَّت بينها الدعاياتُ خنادقَ، ورفع بينها الخوفُ جدارا.
لقد كان اسم “المسيرة” أجمل ما صاغته تلك اللحظة العبقرية من تاريخنا الحديث؛ لكنه أيضا بقي –عند آلاف ممن نريد عودتهم إلى حضن وطنهم– عنوانَ جرح صُوِّر فيه المغرب وحشا يزحف، لا شعبا يعانق رماله.
“عيد الوحدة” تجريب لوصفة ترياق ينزع السهْم من اللحم الحيّ، ويذكّرنا بأنّ غايتنا ليست أن نعلّق صورة فوق حائط التاريخ، بل أن نعيد ترتيب البيت من الداخل.
إنّ الجرأة الملكية في إعلان عيد وطني جديد ليست عملا شكليا؛ بل إشعارٌ بأن ميزان اللحظة مالَ من “استرجاع الأرض” إلى “استرجاع الإنسان”. لهذا يجب أن نرتقي بالخطاب إلى مستوى الفرصة: لا شماتة في أحد، ولا استعراض لتشكيلات نصر، ولا تحويل للوحدة إلى عصا تأديب.
ما نحتاجه، بالضبط، هو أن نُحسن الإصغاء إلى هشاشة الجار قبل صلابته؛ وأن نفهم مخاوف الجزائر قبل أن نحتفل بهزائمها.
لقد كتبتُ مرارا: لا أحد أجرم في حقّ الجزائر مثلما أجرمت فرنسا، ولا أحد سيكفّر عن ذلك سوى مشروع مغاربي جديد يعيد وصل ما قطّعه الاستعمار ثم أعادت تدويره الحسابات الضيّقة.
لا مستقبل لنا وحدنا، ولا لهم وحدهم. إمّا معا… أو معا.
الوحدة، إذن، ليست بيان نصر، بل منهاج شفاء يقتضي مبادرات مؤلمة في ظاهرها رحيمة في جوهرها تعني أن تنظر الدولة في ملفات السجناء على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية بعين “العفو الجامع”، ما دام العفو سيصير طقسا مؤسِّسا لهذا العيد.
من لا يتردّد في فتح باب الوطن أمام من رفع السلاح خطأ، لن يعجز عن فتحه لمن رفع الصوت وجَعا. هذه ليست “حنّية” سياسية؛ هذا ذكاء دولة تعرف كيف تقوّي جسدها بتوسيع صدرها، وتجرؤ ــ عند الحاجة ــ على مدِّ لحمها إلى نار الكيّ لتوقف النزيف، وعلى إدخال المشرط لاجتثاث الرصاصة المغروسة في عمقها وإن كان في ذلك ألمٌ عابر.
الديمقراطية لا تتغذّى من الصرامة وحدها؛ بل تحتاج إلى مكارم العفو كي تستمرّ دولة لا مزرعة.
أما مع الجزائر، فلن أتعب من تكرار البديهيات الصعبة. التاريخ شاهدٌ أن ضفّتيْ الحدود كانتا، ساعة المحنة، جسدا واحدا، ونهرا يعبر من وهران إلى فاس، وسواعدَ تقاتل من تطوان إلى تلمسان.
من حقّ الدول أن تختلف، لكن من حقّ الشعوب علينا أن نحمي حقّها في المستقبل.
“عيد الوحدة” فرصة لنقل الخطاب من منابر التحدّي إلى مدارس التلاقي. جامعة مغاربية للطاقات الشابّة، وممرّات اقتصادية تربط الداخل بالداخل، ومصالحة ثقافية تُنصف الوجدان المشترك من شعارات الفرقة إلى.. خاوة خاوة.
سيقول قائل: وماذا عن السياسة الدولية وتقاطع المصالح الصلبة؟
نعم، العالم لا يوزّع الهدايا مجانا، لكنّه يحترم من يحترمون أنفسهم وتاريخهم وجغرافيتهم، ويحترم من يعرف كيف يدير قوّته بهدوء.
لقد أثبت المغرب أنّه شريك موثوق حين يفاوض، وصديق عنيد حين يُظلم. واليوم، ونحن ننتقل من “المرافعة” إلى “الترجمة”، علينا أن نُحوّل تفويض المجتمع الدولي إلى عمل ملموس، عبر مفاوضات تنتهي بتدبير حقيقي لصالح الناس، وإبداع في صيغ الاندماج الاقتصادي جنوبا، حيث تصير الكركرات بابا لا قُفلا، ويصبح الجدار الرملي حزام أمان لا خطَّ فصل.
“عيد الوحدة” ليس نقيض “المسيرة الخضراء”. بل هو امتدادها الأخلاقي. يومٌ نراجع فيه معنى وطنية تفيد وعدا بالعدل لا نشيدا بالنصر.
علينا في هذا اليوم أن ندرّب أنفسنا على فضيلة صعبة: أن نضع العاطفة في خدمة العقل، لا العقل في خدمة العاطفة. نفرح ثم نعمل. نهتف ثم نبني. نغلق ملفّ نصف قرن من الخصام، ثم نفتحه على قرون من الوصل.
سأسميه، على طريقتي، عيدَ الشجاعة الهادئة. الشجاعة التي تعرف متى تقول “لقد ربحنا” ومتى تقول “فلنربح جميعا”.
الشجاعة التي تفهم أن الوطن لا يقوم على حنجرة واحدة، بل على جوقة متناسقة، وأن الكرامة لا تُؤخذ من يد خصم مهزوم، بل تُستعاد مع أخ عائد.
إذا نجحنا في ذلك، صار يوم 31 أكتوبر موعدا سنويا نقرأ فيه الدرس ونُعلن الانتقال من دارس إلى فاعل. يومها فقط، يصبح “عيد الوحدة” عنوانا لحياة تُعاش، لا تاريخا يُدوّن.