في علمانية الدين.. السياسة والوِجدان والفقه
كثُر الحديث عن “العلمانية” حتى تكلم فيها من لا يعرف من تعريفها إلا “فصل الدين عن الدولة”. أما أولئك الذين أبدعوا في تفريعها إلى فصول: فصل الدين عن العلم، فصل الدين عن الأخلاق، فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن السياسة؛ فهؤلاء قد جعلوا منها مفهوما عابرا للأقطار والقارات والمجالات المعرفية والأحداث التاريخية، فاكتفوا بتعريفات عامة صالحة لكل زمان ومكان، جعلوا منها مثالا كما هي باقي المثل التي يرفعونها شعارا في شؤون السياسة والاجتماع!
يجب أولا إرجاع العلمانية إلى شرطها التاريخي الأصلي، فهو الذي بإرجاعها إليه يتحدد تعريفها الحقيقي، أي التاريخي الذي لا ينفصل مفهوم “العلمانية” عنه، ويستحيل كل انفصال عنه في التعريف مجرّد إيديولوجيا، “عملية ذهنية يقوم بها الفرد وهو واهم” بتعبير ف. إنجلز. العلمانية واقع تاريخي قبل أن تتحدد كمفهوم (“الواقع سابق على المفهوم” كما يقول ع. العروي في “مفهوم الإيديولوجيا”)، إنها واقع تاريخي بدأ اقتصاديا-اجتماعيا قبل أن يُنتج نموذجه في الفكر والسياسة، في الفلسفة وتنظيم المجتمع. لا يمكن الحديث عن العلمانية كلما غاب الأساس الاقتصادي للحداثة، أي النظام الاجتماعي الرأسمالي وطبقته البورجوازية التي تمارس التحديث وتفرضه في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة. هذا هو النموذج البدئي للعلمانية في الغرب، وكل حديث عن العلمانية خارجه فهو إما استساخ إيديولوجي أو انعكاس فعلي لواقع في طور التحديث/ في طور العلمنة أو تعميم نتاج تاريخي على حقيقة إنسانية عالمية.
في الحالة العربية عموما، يمكن الحديث عن ثلاث علمانيات متعايشة بضرورة الواقع السياسي والاجتماعي؛ هذه العلمانيات هي:
-علمانية في التاريخ: وذلك لأن الدول العربية والإسلامية لا تعيش في جزيرة غير منخرطة في النظام الاجتماعي السائد عالميا، وهو نفسه النظام الذي فرض قواعده على “اشتراكية الصين” و”أوراسية روسيا” و”شيوعية كوريا الشمالية” و”ولاية الفقيه الإيرانية” و”تقشف وممانعة كوبا”.. هذا النظام الاجتماعي يفرض قانونه وفكره على الجميع، من باب الاقتصاد قبل أي باب أخرى. العلمانية تخترق وتُستنبت في كل دولة تناسبا مع مدى ارتباطها بالنظام الاجتماعي الرأسمالي، ف”في كل تقنية مضمون إيديولوجي” كما يؤكد يورغن هابرماس (التقنية متحيزة إيديولوجيا). الذهنية تتغير تبعا للممارسة العملية، وحتما فإن العقل الذي يسوغ الاقتراض من البنك ليس نفسه العقل الذي يحرم الربا في “عصر قروسطي”، وإن الذهنية التي تشتغل في مصنع ميكانيكي تختلف عن ذهنية الفلاح الذي يعيش على على الأرض ومنتجات أسواق القرى. هذه علمانية تاريخية لا يصدها أحد، مرتبطة أساسا بالعولمة الاقتصادية وسيطرة الرأسمال.
-علمانية في النفس: وهذه مرتبطة بالأفراد، بالإنسان الحر الذي مهما بلغت منه السيطرة مبلغها يحافظ على حيز خاص، حيز وجودي إنساني “فرداني وأناني”، في علاقته بالمسألة الدينية.. مهما مورِس بها من ضغط وضبط وسلطة، وكيف ما كان النموذج الديني الذي تفرضه هذه السلطة.. الدين ملاذ، عزاء، رَواء للظمإ الأنطولوجي، سبيل للتحرر والانعتاق.. يخضع للسلطة في السياسة والفضاء العام، لكنه يأبى إلا أن يكون حرّا طليقا في الفضاء الخاص.. يقمع -في مادته الإيديولوجية- الأفراد على الانخراط في الجماعة، لكنه يحافظ على ميكانيزمات وجودية تقاوم القيود وتخاطب ذاكرة الإنسان القديمة، حيث توجد قيود الطبيعة والاجتماع المشاعي وتنتفي قيود التفاوت الاجتماعي والسلط الناتجة عنه.. هذا الدين يأبى الترويض، ويبقى محفوظا في اللاوعي (و”اللاوعي له تاريخ” حسب س. فرويد).. وإن هذه الخاصية تصبح أكثر ظهورا وبروزا في المجتمعات “اللَّقاحية” (المتمردة) بتعبير هادي العلوي (“في الإسلام المعاصر”)، كما هو حال مجتمعات البحر الأبيض المتوسط.. وتصبح ذات الخاصية أكثر تكثفا من الحالة السابقة في مجتمعات لقاحية وإسلامية في نفس الوقت.. الدين في هذه الحالة يأبى تجريده من الوجدان وينفلت من قيود السلطة مهما استفادت منه هذه الأخيرة.
-علمانية في الشريعة: وهذا تركيب يثير التناقض أول الأمر، لكنه غير مستغرب عند من خاض غمار التأصيل لدى المدارس الإسلامية المختلفة من أحمد بن حنبل إلى نجم الدين الطوفي، من فقه النصوص إلى فقه المصالح، من “ظاهرية النص” إلى “قابليته للتأويل”، من “قراءته واليقين بحكمه” إلى “تحقيق مناطه”.. انطلاقا من هذا المنطق فقد تمت على مدى عصور مواكبة التاريخ بالنص من خلال منهجيتين هما: تخليف النص أو تعليقه بتاريخ (نصوص “ما ملكت اليمين” و”الرق” على سبيل المثال)، أو توسيع دائرته باتساع الممارسة التاريخية (من قبيل: إدخال المصالح المستجدة في منطق الشريعة تحت مسمى “المصالح المرسلة”، وتنزيل الأحكام على وقائع مستجدة بعملية “تحقيق المناط”).. هذه علمانية ضمنية في الشريعة، مسوغات أصولية وفقهية لتطوير الشريعة تحت سقف معيار الشريعة، حفظٌ للشريعة ومواكبةٌ للتاريخ في نفس الوقت.
تتعايش هذه العلمانيات في أفق واحد، هو السياسة للدولة والدين للافراد.. الحالة التي نعيشها اليوم هي أقرب لما يلي: التدين للدولة، والدين والتدين للأفراد.. وذلك لأن الدولة ما زالت في حاجة للدين لضبط الأفراد، كما أن هؤلاء ما زالوا في حاجة للدولة لتنظيم سلوكهم وأخلاقهم وتدينهم.. الأفق الذي حددناه أعلاه، لم يبلغه الغرب نفسه، لأن عملية الانتقال تمت لديه بعنف، فوجد نفسه أمام الواقع الآتي: السياسة للدولة، والتفكك والانحراف والشذوذ للمجتمع. هذا الواقع الغربي، بالإضافة إلى التهديدات التي تهدد استقرار الدول العربية في عالم متقلب، هو ما يجعل الحالة التي نعيشها أكثر أمانا.. لا يبلغ الدين فيها مداه في نفوس الأفراد وأحوالهم، لكنهم يبلغون منه مبلغا.. لا يمارسون السياسة كسياسة مجردة من سلطة الدين، لكنهم يرضون استقرارها وتقدمها وفق الممكن تاريخيا.. هذا هو السهل الممتنع، أن تعيش السياسة والوجدان والفقه في آن واحد، أن تستقر الدولة ويتحرر الوِجد ويتقدم الاجتهاد على صعيد واحد.. هذه هي حالة العالم العربي والإسلامي.