في ذكرى الاستقلال.. الماضي بلسان الحاضر
لم يكن المغرب ليحصل على استقلاله (18 نونبر 1956)، بعد أكثر من أربعة عقود من الاستعمار والاستغلال والاستنزاف، لولا تحقق شرطين:
-شرط داخلي: كان نتيجة حفاظ نظام المخزن على وجوده طيلة فترة ما يسمى ب”الحماية”؛ ولما نتكلم عن نظام المخزن فنحن نتكلم عن مؤسسة السلطان وامتدادها في الزوايا والأسر الشريفة والقبائل وكبار تجار المدن وأوساط الفقهاء.. تضررت كل هذه الفئات من الاستعمار، وكان لابد لها أن تنتفض في وجهه لمّا تتحقق شروط ذلك. صحيح أن البورجوازية المغربية الصاعدة دفعت بقوة في اتجاه التحرير نظرا للقيود التي فرضها الرأسمال الفرنسي على تطور قواها الإنتاجية، وصحيح أن كافة الفئات الاجتماعية المغربية وجدت نفسها على النقيض من الاستعمار موضوعيا؛ إلا أن الرابطة التي وجهت كافة الجماهير ووحدت كافة الفئات كانت أقدم من الوجود الاجتماعي للتحرير.. كانت تضرب بجذورها عميقا في البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أفرزها نظام المخزن منذ تأسيسه على يد الموحدين، وتطوره على مراحل، إلى أن عززه العلويون في مختلف مناحي الحياة، من الإدارة والجيش إلى نمط عيش الأسر وقيمها الخاصة.. هذا تركيب بين وجهتي نظر، اجتماعية لعبد السلام الموذن (“الدولة المغربية: قضايا نظرية”)، وتاريخية انثروبولوجية لعبد الله العروي (“استبانة”، “من ديوان السياسة”).
-وآخر خارجي: أنتجته شروط ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تراجُع قوى استعمارية قديمة من قبيل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا، وبروز قوى جديدة هدفها اقتسام العالم على أساس جيوسياسي جديد؛ والمقصود هنا هو الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، أما الصين فقد كانت لتوها تبني دولتها “الشيوعية” على يد زعيمها ماو تسي تونغ ورفاقه في الحزب الشيوعي. على وقع الحرب العالمية الثانية انتقل العالم إلى عالم الحرب الباردة من جهة؛ ومن جهة ثانية، إلى نموذج جديد من الاستعمار هو الاستعمار الجديد اقتصاديا وثقافيا مع “الاضطرار” إلى نموذجه القديم -أي العسكري- بين الفينة والأخرى (العراق، فلسطين مثلا).. في هذا الشرط الدولي الجديد لم تعد لفرنسا القدرة التي كانت، فاستسلمت لنموذج جديد من الاستعمار حاولت هي نفسها أن تسايره إلى حدود اليوم.. انتقال العالم إلى مرحلة جديدة، إلى نظام دولي جديد، كان كفيلا بإضعاف الوجود الاستعماري في المغرب، ما جعله يتخلى عن أسلوبه القديم في السيطرة.
لقد كانت وثيقة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944) تعبيرا مطلبيا عن الشرطين أعلاه، من حيث مضمونها أولا، ثم من حيث الموقعين عليها. فمضمونها المطلبي لم يعد مقتصرا على المطالبة بالإصلاحات، وانتقل موضوعيا للمطالبة بالاستقلال عن دولة الاستعمار. وقد عبر هذا الانتقال، في جوهره الاجتماعي، عن تحول في بنية المجتمع المغربي؛ أي عن نضج شروط المطالبة بالاستقلال لدى فئاته المختلفة، خاصة بورجوازية المدن التي أخذت بزمام القيادة السياسية والكفاحية والقانونية والفكرية. أما الموقعون، وهم من أعضاء حزب الاستقلال ومناضليه، فقد كانوا يعكسون تنوع المطالبين بالاستقلال؛ إلا أنهم كانوا ينتمون عموما إلى الفئات المسيَّسة والمثقفة التي تحمل هموم وطموحات المجتمع الجديدة والبورحوازية الوطنية، في إطار الخصوصية السياسية والثقافية المغربية التي تحدثنا عنها أعلاه.
يظهر إذن، أن الاستقلال كان عملية بطولية، ثورة جماعية، ملحمةَ ملك وشعب؛ إلا أنه لم يكن ليتحقق إلى بشروطه.. فلا ندري كيف يتكلم البعض عن المغرب، وعن استكمال وحدته الترابية، وعن استقلال اقتصاده، وتوحيد وتعميم ثقافته الوطنية، من غير اكتراث بالشروط المطلوبة والمنتظر لتحقيق ذلك؟! لا استقلال إلا بشروط، ولا اكتمال للاستقلال -ترابيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا- إلا بشروط وبتدرج حسب هذه الشروط. ولما حصل الاندفاع عند بعض الفئات، أخطأت التحليل ومعه الممارسة، وبعثرت أولوياتها، وحال وعيها “العولمي” دون استيعاب منطق الأحداث في مغرب الاستقلال.. ونخص بالذكر في هذا الباب الطريقة التي تعاملت بها بعض فئات المجتمع السياسية والنقابية والحقوقية مع قضايا: نظام الحكم، استرجاع الصحراء المغربية، استقلال الاقتصاد الوطني.
لقد حاولت بعض الفئات إيجاد حلول مثالية لتحقيق الاستقلال الكامل والشامل وتحديث دولته، لكنها فشلت في معظم طموحاتها، فتحولت بعد فترة ورغم أنفها القديم إلى طرف في تدبير سياسي أكبر منها، وأصبحت جزءا من تراكم لم تكن تدريه ولم توافق يوما أن تكون منه.. لكنه “مكر التاريخ” بتعبير هيجل، جعل منها جزءا من سياسة واقعية تتقدم بخطوة أو نصف خطوة إلى الأمام، بدل أن تعود بعشر خطوات أو أكثر إلى الوراء. إن هذه الفئات التي ظلت تبحث عن نجاعة خارج “المنطق الواقعي للأحداث”، لم تجد لها دورا ولا صدى ولا نجاعة إلا داخل ذات المنطق. وها هي ذي اليوم ترى: تقدما دستوريا وسياسيا في نظام الحكم، ورأسمالا وطنيا قادرا على التنافس في السوق الداخلية وخارجها، وتقدما غير مسبوق في قضية الصحراء المغربية..
هناك من سيطرح سؤالا يعتبره ضروريا: وأين الشعب؟ ونحن نجيب: الشعب في التقدم الواقعي والتاريخي والممكن لنظامه السياسي، الشعب في رأسماله الوطني القادر على المنافسة، والشعب في صحرائه المغربية وفي كافة ترابه الوطني.. أما الذين يتحدثون عن الديمقراطية كثيرا، ويريدون فرض النموذج الأمريكي الليبرالي فيها، فننبههم إلى أن وحدة النظام السياسي وتنمية الرأسمال الوطني والوحدة الترابية مطالب ديمقراطية، والتقدم فيها تقدم في الديمقراطية.. وحدهم الذين يتحدثون عن الديمقراطية كانتخابات تمكّنهم من الحكم فقط، هؤلاء وحدهم هم الذين يفصلون الديمقراطية عن شروطها التاريخية، حتى إذا امتلكوا زماما من حكم أضاعوا مصالح البلاد و العباد. لو عرفوا التاريخ لعرفوا الحكم، لو عرفوا الحكم لتحقق ودام لهم!