في انتظار الزفزافي والآخرين
ما يدفعني للكتابة ثانية عن حدث العفو الملكي الأخير، فضلا عن أهميته في هذه اللحظات التي أعتبرها مفصلية، فإما سنكون على أبواب عودة لنهج التراكم الإيجابي التدريجي (ولو ببطء) في اتجاه توسيع هوامش الحريات، وإما سيكون قوسا سرعان ما سيغلق بمفاتيح السلطوية الفجة (والطفولية كذلك)، هو ذلك التقزيم والتبخيس الذي قوبل به، ليس من طرف المحسوبين على “المعارضة الراديكالية”، بل من طرف من يدعون “الوطنية”، ولا يرونها إلا قرين تبرير السلطوية والشوفينيةوالشعبوية الأمنوية.
في البداية، يجدر التذكير بما هو بديهي بخصوص معيارية العفو الخاص، الذي هو اختصاص حصري لرئيس الدولة في أغلب الأنظمة القضائية الدولية، ومنها المغرب بطبيعة الحال. لفهم أكثر انسجاما مع السياق الحالي.
من السذاجة السياسية، ومن الفقر القانوني، أن يعتبر البعض أن الملك لا يباشر العفو إلا بعد توصله بطلب من المعني بالأمر، لأنه بهذا ستكون إرادة الملك في منح العفو مقيدة بإرادة من يريد العفو عنه، ورغبته في طلبه، وما يؤكد ذلك أن المادة الثامنة من ظهير العفو، تنص صراحة على أن الملك يمنح العفو مباشرة أو بعد طلب يقدمه السجين أو عائلته أو محاميه أو النيابة العامة أو إدارة السجون، وجعل العفو مباشرة هو الأول في الترتيب، مما يفيد أنه الأول في التراتبية.
كما وسع دائرة من يمكنهم طلب العفو نيابة عن السجين، للرفع من احتمالية حصوله، ولتيسير ممكنات الوصول له، في بعض الحالات رفعا “للحرج”.
وفلسفة العفو الخاص في كل الأنظمة القانونية المقارنة، لا ترتبط حصرا بخلفيتها الإنسانية، بل تمتد إلى اعتبارها آلية من بين آليات تصحيح الأخطاء القضائية، حين يعبر حكم ما جميع مراحل التقاضي، ثم يثبت خطؤه، أو قصور في ضمانات المحاكمة العادلة، كما أن منح الاختصاص الحصري لرئيس الدولة في العفو الخاص يوفر له أداة دستورية لحل إشكالات سياسية أو أمنية أو اجتماعية أو ديبلوماسية (العفو عن سجناء أجانب أثناء زيارات رؤساء دول، العفو عن معتقلي استفتاء كتالونيابشأن الاستقلال مثلا،،)
ولذلك، استغرب حين أسمع وأقرأ لمن يصرح (ويا حسرة بادعاء الدفاع عن “الملك”) أن استثناء معتقلي حراك الريف مثلا، هو بسبب من امتناعهم عن طلب العفو، فيصورون الملك من حيث لا يدرون (أو يدرون، ويقصدون ذلك لغرض ما) على أنه يسعى لإذلال من يريد العفو عنهم، مما يتناقض مع فلسفة العفو بأبعادها الدينية والأخلاقية والقانونية والسياسية.
كما أستغرب ممن يقزم حدث العفو الأخير، حد اختزاله في البعد الإنساني، وكأن هذا البعد لم يكن إلا هذه السنة في شخصية الملك، وكأن الحالة الإنسانية للمعتقلين من المدونين والصحافيين المفرج عنهم هي أقسى من حالات باقي المعتقلين سواء لأسباب سياسية (النقيب زيان مثلا) أو غيرهم.
لقد تلقفت الكثير من وسائل الإعلام الدولية هذا الحدث، وعملت على تغطيته، واستطاع أن يجد له حيزا على نشرات الأخبار، وصفحات يوميات كبرى الصحف الدولية ومواقعها الإلكترونية، رغم ما تعج به الساحة الدولية من أخبار الحروب والنزاعات المسلحة والحملة الانتخابية في أقوى بلد بالعالم، كما تفاعلت معه المنظمات غير الحكومية المعتبرة دوليا، ثم يأتي من يقزمونه إلى مجرد التفاته إنسانية، محاولين نزع الأبعاد الحقوقية والسياسية منه، مما يعكس تخوفا غير معلن من إمكان توسيع تداعياته إلى حد إحداث انفراج حقوقي وسياسي، تحتاجه بلادنا، للمزيد من الاختراقات في قضايا كبرى، ومنها قضية الصحراء.
إن تأمل هندسة هذا العفو، الذي استفاد منه تقريبا كل الصحافيين والمدونين الذين اعتقلوا بعد محاكمات افتقرت لضمانات المحاكمة العادلة (في الشكل والمضمون والسياق)، يدل على أنه ليس وليد الأمتار الأخيرة من السباق، بل استوى على نار هادئة، بدليل وجود أسماء حوكمت بسبب تدوينات أو فيديوهات لم تكن حتى الجمعيات الحقوقية ولا المدافعون عن حقوق الإنسان ولا الصحافة يعلمون بها.
وهو الأمر الذي أعادنا إلى مربع التفاؤل بإمكان أن يتم إطلاق سراح معتقلي الحراكات الاجتماعية (ناصر الزفزافي ورفاقه، ومعتقل حراك الماء بفكيك “موفو”، وما تبقى من معتقلي الحركة الطلابية وحركات المعطلين)، وأن يتم توقيف المتابعات في حق الأساتذة الذين كانوا يناضلون في إطار تنسيقية المتعاقدين، وإلغاء مذكرات الاعتقال في حق نشطاء الخارج (وخصوصا من الذين صدرت مذكرات اعتقال في حقهم موازاة مع محاكمات مناضلي حراك الريف).
فإذا كان الشوط الأول هم الصحافيون والمدونون، فالأمل أن يكون الشوط الثاني متعلقا بالقضايا التي لها علاقة بالاحتجاجات مباشرة أو بشكل غير مباشر.
هكذا ننظر لهندسة العفو، من دون تقزيم أو تبخيس، ومن دون تطبيل كذلك.
إن مؤشرات كثيرة توحي بأن المغرب سائر نحو تحول نوعي في قضية الصحراء، قد يصل إلى حدود طلب التصويت داخل مجلس الأمن على اعتبار مخطط الحكم الذاتي الحل الأوحد الممكن لهذا النزاع، خصوصا أن هذه المنطقة أصبحت رهانا لقوى مالية واستثمارية كبرى لها قدرة على التأثير في القرار الاستراتيجي لدول كبرى (قوى طاقية واستثمارية)، مما يجعل الحل النهائي لنزاع الصحراء تلتقي فيه موضوعيا مصلحة المغرب مع مصلحة هذه القوى.
إن اقتناص هذه اللحظة، وعدم تضييعها يقتضي ليس فقط الانفراج الحقوقي في ملفات المدونين والصحافيين ونشطاء الاحتجاجات، مما رحب وسيرحب بها غالبية المواطنين/ات (الفرحة التي عمت وسائط التواصل الاجتماعي مساء الإثنين 29 يوليوز هي بمثابة استفتاء غير معلن)، بل يمكن أن يدفع إلى إيجاد مخارج على شاكلة التسويات التي قد تبدو قاسية، ولكنها مؤسسة للمستقبل (كالإفراج عن معتقلي كديم إيزيك).
قد أكون مفرطا في التفاؤل، لأنني كنت وما زلت تواقا للإفراج عن كل معتقلي الرأي والحراكات الاجتماعية، بأي وسيلة كانت، ولم أعد من أنصار مقولة “بدون قيد أو شرط”، لأنها فضلا عن أنها مستحيلة، فإنها تقتضي أن يكون ميزان القوى لصالح القوى الصادقة (في أي جهة كانت) الساعية للديموقراطية، وهو الأمر غير المتحقق في الشروط الحالية، ولذلك فطي صفحة الاعتقالات والمتابعات بسبب الرأي والاحتجاج بما يحفظ “هيبة” الدولة و”كرامة” المعتقلين والمتابعين يحتاج هندسة أنيقة، أفترض أنها انطلقت مساء الإثنين الأخير من الشهر الماضي، وآمل ألا يغادرنا هذا الصيف إلا بمغرب بدون معتقلي رأي.