فلُوس الما دَّاهم عزيز
يأكل الغلّة ويَسُبُّ (…). وحده عزيز أخنوش يمكن أن يفعلها في وطنٍ يبدو (..) كما لم يكُن يوماً.
هذا الرجل متحوّرٌ شديدُ الخطورة في جينات رأس المال الوطني. بل بلغت به “القوة” أن يقف في قبّة البرلمان، يوم الاثنين 16 دجنبر 2024، بصفته رئيس الحكومة، ليُكذِّب، بلسان المستثمر، الجميع، بعدما فضّل “كثيرٌ من هذا الجميع” تجاهل قصّة مشروع يقع في مساحات شبهة تعارض مصالح.
ولمن لا علم له بالقصة، نخبره أن شركتي “أفريقيا غاز” و”غرين أوف أفريكا”، المملوكتين لهولدينع أخنوش، فازتا، إلى جانب شركة إسبانية، بصفقة ضمن شراكة مع القطاع العام لإنشاء محطة تحلية مياه البحر في الدار البيضاء. وللمزيد من “العلم النافع”، نخبرُ أن أخنوش، بذاته وصفاته، هو في الوقت ذاته مُحْدِث ورئيس اللجنة المسؤولة عن التعاقد على المشروع.
وللتوضيح أكثر: للشراكة بين القطاع العام والخاص، كما في حالة محطة تحلية مياه البحر، تُحْدَث، تحت رئاسة رئيس الحكومة، لجنة وطنية تسمى “اللجنة الوطنية للشراكة بين القطاعين العام والخاص”، يشار إليها في القانون رقم 12-86 باسم “اللجنة الوطنية”. وبهذا، يكون السيد رئيس الحكومة مُحْدِثاً ورئيسا اللجنة التي عقدت مع شركتيه الصفقة اللتين لم يقل إنه لا علاقة له بهما مادام في منصب رئيس الحكومة.
ولو سألتَ أي “مُسيّس عاقلٍ” قبل أسبوع عن جوابٍ محتملٍ لرئيس حكومتنا، الذي تعلّم “الأقصاف” السياسية “في خمسة أيام”، بشأن تبرير فوز شركتيه بمشروع يقع أمرُ تعاقدِ الدولةِ عليه تحت سلطته، لأجاب بأنه يمكن أن يبتدع ردّاً في غاية البساطة، مفاده أنه لا علاقة له بتدبير الشركتين منذ اللحظة التي حاز فيها التكليف الملكي ونال الثقة في البرلمان، وأن الشركتين تقدمتا بعرضٍ مثل باقي الشركات المنافسة بدون علمه المسبق أو تدخله، وأنه تنحّى باعتبار منصبه الحكومي عن أي تدخل في المشروع خلال مراحل ترسيته لاستبعاد شبهة تعارض المصالح، وأن يعبّر عن استعداده لفحص كل كلامه بأي شكل قانوني لتكريس الشفافية. هذا مبلغ الاجتهاد وما سيكون معقولا سياسياً، رغم “ركاكته القانونية”.
أخنوش لم يهتمّ أصلا بأن يكون جوابه معقولا، و”قصّح وجهه” حين اجترح غير المتوقّع: لم “يتبرأ” من أنه المستثمر على وجه الحقيقة وسمّى المستفيدين من الصفقة بـ”الناس اللي غادي يستثمرو” (كأنه لا يعرف أو لا يريدنا أن نعرف، وكأنهم سيقدمون على تضحية في سبيل الوطن ما بعدها تضحية “لله في سبيل الله”)، بل وزاد في “الجُرأة على القانون والسياسة” حرفاً وهو يدافع عن “قانونية الصفقة”، وكذّب الجميع بشأن ما يعلمه الجميع، أنه المالك الأكبر في الشركتين اللتين تعاقدتا مع الدولة التي يتولى مسؤولية السلطة التنفيذية فيها.
أخنوش بفائضِ ثقةٍ ( يُحسد عليها) قرّع معشر “الكذّابين” في الدفاع عن مصالحه، بلغة فيها تهديد بـ”التاريخ” وبأنه لن يسكت، وأيضا وهو يخاطب نائبةً ويذكّرها بوالده أحمد أولحاج (رحمة الله عليه)، من على منبر البرلمان وعلى الهواء مباشرة، ولم يرفَّ له جفنٌ. كان بالواضح الفاضح يدافع عن “استثمارٍ” سيدرّ أموالاً طائلةً في حساباته البنكية طيلة 30 عاما بعد أن يُغادر رئاسة الحكومة.
إلى هذا الحد، وبلا شك، يكون “السيد بوكو لعاقة” قد ثبّت على نفسه بكثير من الحماسة وجود شبهة تعارض المصالح.
بل إن رئيس حكومتنا “مسح السما بليكا” حين قال، أمام نواب الأمة المتحمّسين للتصفيق، إن هذا المشروع لم يستفد من الدعم العام، ونسيَ ما هو منشور في الموقع الإلكتروني لرئاسة الحكومة، بتاريخ الثلاثاء 10 دجنبر 2024، عن اجتماع الدورة السادسة للجنة الوطنية للاستثمارات، المحدثة بموجب ميثاق الاستثمار الجديد، الذي دخل حيز التطبيق منذ شهر مارس 2023، حيث أكد على أن اللجنة “صادقت على 4 مشاريع في إطار نظام الدعم الخاص المطبق على مشاريع الاستثمار ذات الطابع الاستراتيجي”، وذكر من بينها مشروع تحلية مياه البحر الدار البيضاء-سطات.
أما ما ساقه الوزير السابق والقيادي في العدالة والتنمية إدريس الأزمي الإدريسي من تواريخ وإشارته إلى تعديل قانون المالية لخفض الضريبة على الأرباح من 35٪ إلى 20٪ على الشركات التي تستثمر في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بمبلغ يتجاوز 1.5 مليار درهم، وجرى إنشاؤها بعد يناير 2023، فتلك “قصة كبيرة” تحيل على سؤال إن كان التعديل قد جرى على مقاس الشركة التي فازت بمشروع محطة تحلية المياه الدار البيضاء.
بلغة القانون، هناك شبهة تضارب مصالح بين رجل الأعمال عزيز أخنوش، وبين رئيس الحكومة عزيز أخنوش.
وبلغة السياسة، هذا الرجل يعيش فائض قوةٍ إلى حدّ أن يخرج، من على منبر البرلمان، ليروّج للمغالطات، ويتهم منتقديه بالكذب، ولا يشعر أنه محتاجٌ للاجتهاد حتى على مستوى الخطاب لوضع مسافة بين صفته الحكومية وبين الدفاع عن أنشطة شركاته.
وبلغة الناس العاديين الخالين من لوثةِ تزويق الكلام، هذا يسمى “الطنز العكري”، و”ضربني بكا، سبقني وشكا”. خذاها كلها وجاي يغوّت علينا من لفوق.
لا أحد يريد أن يرى عزيز أخنوش مُفلساً، ولا أي مستثمر آخر. لكن لن يكون شخص أخنوش مهما إلى حدّ القبول بهذا التشنيع بالقانون، حين يصدمنا رئيس الحكومة بالوقوف في برلمان الأمة للدفاع عن استثمار شركاته، بالمخالفة لكل منطق.
أخنوش لا يمكن أن يكون أكبر من مصلحة استقرار المغرب، وإشاعة السلم الاجتماعي، والشعور بأن المغاربة سواسية أمام القانون.
ولن يكون شخص أخنوش أهمّ من احترام الحد الأدنى من “عقل الدولة” الذي يُقدِّر ما يجب أن يُقال في مواطِنِ الجدّ لا الخفّة.
أخنوش قفز في الهواء ليرمي منتقديه بخطئية الكذب، لكنّه حقيقةً كان يهبط بمؤسسة رئاسة الحكومة إلى مستوى الدفاع عن “هولدينغ عائلي” في جلسة مساءلة رئيس الحكومة (مساءلة؟؟).
أية رسالة يجتهد هذا الرجل في تبليغها؟
وأية رسالة سيفهمها الناس من رئيس حكومتهم وهو يلوكُ كلاما ( ثقيلا على القلب) عن محطتي تحلية مياه البحر اللي (لقاو ليهم ماليهم)؟ هكذا قالها.
ما الذي سيفهمه الناس من أن يعارض أخنوش قانون تجريم الإثراء غير المشروع، ثم لا نجد في سياسات حكومته إلا الدفاع المحموم عن كل ما يفتح طريقاً سيّارا لـ”زيادة الشحمة فظهر المعلوف”؟
ما سيفهمه الناس أن من يدبّرون الشأن الحكومي اليوم ينظرون إليهم كزبناء، وأن العلاقة يحكمها البيع والشراء، من الانتخابات إلى تشريع القوانين.
ما سيفهمه الناس أننا في زمن “الحكومة الشركة”، التي يجري فيها تعيين مرؤوسي رئيس الحكومة وأعوانه في شركاته وزراءَ، لربما في نوعٍ من المكافأة، وبما ينشئ علاقةً عليلةً محكومةً بسابق العلاقة التشغيلية.
ما سيفهمه الناس أننا في “زمن لهموز”، يسيّر شؤوننا “سياسيو لهموز”، في ظل “حكومة لهموز”.
ما سيفهمه الناس أن مطلب فصل الثروة عن السلطة الذي رُفع مطلبا أساسيا في الشارع لا يزال بعيدا.
في دولة كالمغرب غير مقبول إشاعة أجواء عدم الثقة، وأخنوش يجعل الناس تفقد الثقة بكل هذا الاستخفاف إلى درجة توريط منصب رئيس الحكومة في “الترافع” لصالح استثمار خاص، في سياق إقليمي شديد الحساسية.
قصارى القول
أمثال أخنوش قلّ أن يجد أحدهم وقتاً فائضاً عن الحاجة يُنفِقه في السياسة و”خدمة الصالح العام”. وأغلبهم إن خصّص بعضَ وقته فإنما يكون، دون تعميم، على سبيل حفظ المصالح الخاصة.
رجل الأعمال حين يدخل السياسة يدركُ أنه يخرجُ من المسارات المعتمة إلى الأضواء، ومن تدبير المصلحة الخاصة إلى القول بالاهتمام بالشأن العام، مع ما يعنيه من تنازل عن راحة التواري إلى الانكشاف التام تحت مجاهِر (جمع مجهر) الرأي العام وصحافته ومشاكسات الفرقاء في المشهد السياسي.
أمثال أخنوش شرهون إلى أقصى حدّ للاستفادة أكثر، وأخذ الحصّة الأكبر، والتموقع الأبْكَر المُسْتبق قبل أن يستوعب الناس مكان وقوفهم. هكذا طبيعتهم. لكن “الدولة العاقلة” تعرف كيف توازن بين وضعية أمثال هؤلاء الذين يبقى وجودهم مهمّا في أي اقتصاد ومصالحهم مصونة وفق القانون، وبين المصلحة العامة الأبقى والأوجب.
أن يستخّف رئيس الحكومة بالقانون والبرلمان وبمنصبه إلى الحدّ الذي أطلّ علينا به، فهذا أدعى للتنبيه أن الاستفزاز خطير، وأن تكاليفه قد لا تُقاس بالدرهم والدولار، بل بالاستقرار والثقة والسلم الاجتماعي.